كلما ننظر إلى حياتنا الماضية بعين متفحصة على الماضي، نُدرك أن جزءًا كبيرًا منها لم يكن سوى أحلام يقظة تراودنا منذ طفولتنا وحتى لحظاتنا الراهنة، حيث تبدأ هذه الأحلام بطموحات جامحة، ثم تتقلص تدريجيًا مع تقدم العمر، حتى تصبح أمنيات بسيطة قد لا تتجاوز استعادة يوم بصحة جيدة، وهذه الرحلة النفسية والفكرية تشبه أكلنا من الشجرة الملعونة مرارًا وتكرارًا، دون أن نتعلم التوبة كما فعل آدم عليه السلام، لكن البعض لم يكتفِ بالحلم، بل تجاوز هذه المرحلة إلى الأفعال، سواء بحظ من الدنيا أو على حساب جيوب وحياة الآخرين.
المرحلة الأولى: الأحلام اللامحدودة - حلم المُلك والخلود:
في بداية حياتنا كنا نحلم بلا حدود، فالطفل الذي يلعب في الشارع كان يرى نفسه ملكًا على عرش خيالي يسبح من خلاله في متاهات الأحلام الخيالية، بل يتحكم في العالم حوله ويحرك كل شيء في أحلامه كما يريد، فالمراهق يحلم بأن يكون خالدًا متميزًا لا يقهره الزمن ولا تعيقه العقبات فيرسمها بريشة أفكاره، ويعيش هذه الأحلام بكل تفاصيلها وكأنها حقيقة، فالبعض يتخيل نفسه رجل أعمال يملك المليارات، وآخرون يرون أنفسهم أبطالًا خارقين لا يُهزمون، أو يسبح بين جميع الأحلام كما يشاء.
أمثلة من تلك الأحلام في هذه المرحلة:
- طفل يربط منشفة حول عنقه متخيلًا أنه سوبرمان، مقتنعًا بأن بإمكانه الطيران، فيطير في أحلامه كما يشاء.
- شاب يقضي الليالي في أحلام يقظة عن كونه نجمًا مشهورًا، يعيش في القصور، محاطًا بالأضواء والشهرة، أو بطلاً يواجه معارك وحده ويفوز على كل الأعداء الذي يصنعهم في خياله.
- فقير يحلم بين ليلة وضحاها أن يجد كنزًا يغير حياته، دون أي جهد يُذكر.
لكن مع مرور الوقت، نُدرك أن العالم لا يمنحنا المجد بهذه السهولة، فتبدأ أحلامنا بالتحول والإنكفاء.
المرحلة الثانية: تضاؤل الأحلام - من العظمة إلى القليل من السعادة:
فعندما نصطدم بالواقع، تبدأ أحلامنا بالتحول من الخيال إلى واقعنا الذي يصعب التأقلم معه، فلم نعد نحلم بالخلود أو المُلك، بل بدأنا نحلم بوظيفة ثابتة ومنزل مستقر وأسرة سعيدة وصحة جيدة، هنا، نُدرك أن السعادة ليست في الشهرة والسلطة والمال، بل في لحظات بسيطة نغفل عنها أثناء سعينا نحو أحلام أكبر وربما يكون قد فات أوانها.
أمثلة:
- الموظف الذي كان يحلم بإدارة شركة ضخمة، لكنه مع مرور الوقت، أصبح يحلم فقط بزيادة راتبه أو الحصول على إجازة طويلة يعود فيها إلى نفسه التي ضاعت في زحام الحياة.
- الذي كان يطمح لشراء قصر، أصبح يحلم فقط بامتلاك منزل صغير دون ديون.
- الذي لم يكن يفكر في الصحة، لكنه بعد معاناته، صار يحلم فقط بأن يستعيد عافيته ليعيش يومًا بلا ألم.
أكل الشجرة الملعونة مرارًا وتكرارًا: الحلم دون توبة:
رغم كل تجاربنا، ربما نعود مرارًا إلى الأحلام المستحيلة، كما لو أننا نأكل من الشجرة الملعونة التي أخرجت آدم من الجنة، ونحلم بالربح السريع، وننجذب للوهم باستمرار، ونصدق الأكاذيب التي نجمِّلها لأنفسنا، ثم سرعان ما نصطدم بالحقيقة.
أمثلة:
- الشخص الذي يكرر تجربة الاستثمار في مشاريع وهمية أو الرهانات، رغم خساراته السابقة، طمعًا في ثروة سريعة.
- من يلهث وراء علاقات عاطفية غير واقعية، مقتنعًا بأنها ستغير حياته، ثم يعود مجددًا لنفس النمط العادي حين يكتشف أن ما ارتبط بها قريبة الشبه بغيرها وربما أسوء.
- من يعتقد أن الحظ سوف يمنحه فرصة العمر، دون أن يبذل جهدًا أو سعياً حقيقيًا لتحقيق أحلامه.
المرحلة الأخيرة: من الحلم إلى الفعل - بين الحظ والاحتيال:
بالطبع ليس الجميع يبقى في دائرة الحلم، هناك من تجاوزها إلى الأفعال، إما عن طريق العمل الجاد، أو عن طريق الحظ، أو بسرقة أحلام الآخرين.
أمثلة:
- شاب فقير عمل لسنوات حتى بنى إمبراطورية مالية، محققًا حلم طفولته.
- ممثل موهوب استغل فرصة صغيرة ليصبح نجمًا عالميًا.
- محتال استخدم ذكاءه لخداع الآخرين، وجمع ثروة من جيوبهم بالنصب والتدليس والرشاوي دون تعب.
فرحلة الإنسان بين الأحلام والواقع مليئة بالمفارقات، حيث تبدأ بأحلام عظيمة، تتقلص مع الزمن، لكن البعض يتعلم كيف يحولها إلى واقع، بينما يبقى آخرون عالقين في دائرة الوهم، يأكلون من الشجرة الملعونة مرة بعد مرة، في النهاية، لا يُلام من يحلم، ولكن من يبقى أسيرًا لهذه الأحلام دون أن يسعى لتحقيقها أو يتعلم من أخطائه.
تعليقات
إرسال تعليق