من النظر إلى البصيرة: كيف نرتقي في فهم هذا العالم؟
تمهيد: بين الظاهر والعمق... تبدأ الرحلة
في عالمٍ مزدحمٍ بالصور، يغرق كثيرون في سطح الأشياء، يمرّون عليها مرور العابر، يظنون أنهم أدركوا... لكن الحقيقة أنهم فقط نظروا.
الرحلة نحو البصيرة لا تبدأ من المعارف الجاهزة، بل من طبقات الإدراك الخمس، التي يصعد فيها العقل والروح معاً، ليفهم الإنسان الحقيقة وراء الأشياء لا مجرد أشكالها.
أولاً: النظر – إدراك الظاهر فقط
النظر هو المرحلة الأولية من الإدراك.
هو ما يحدث حين نُدرك الصورة الخارجية للشيء، دون أن نخترق أعماقه.
-
عندما تنظر إلى إنسان، ترى ملابسه، شكله، وقوفه، ابتسامته...
لكن هل عرفت من هو؟ ماذا يحمل داخله؟ ما خلف هذه الصورة؟
النظر هو إدراك سطح الشيء دون فحص جوهره.
وهو أضعف مراتب الإدراك. قال تعالى:
"وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ"
(الأعراف: 198)
ثانياً: المشاهدة – إدراك العناصر المكوِّنة
المشاهدة تتجاوز ظاهر الصورة، فتسعى لاكتشاف مكوّنات الشيء، وتفكيكه إلى عناصره الأساسية.
هي محاولة عقلية لرؤية التكوين، والربط بين أجزائه.
-
مثال: في التفاعلات الكيميائية، حين يُقال "شاهد التفاعل"، فالمقصود رؤية مكوّنات المادة وتفاعلاتها.
المشاهدة هي إدراك العلاقات والروابط بين عناصر الشيء.
تبدأ هنا الدهشة العلمية وتولد الأسئلة العميقة، ويتحوّل الإدراك من مجرد رصد، إلى تفكيك وفهم.
ثالثاً: الرؤية – تفعيل ما أدركت
الرؤية تختلف عن المشاهدة.
الرؤية هي حين تبدأ في التحكم بما أدركته من عناصر، وتبدأ بتحليل الأثر والغاية.
-
قد يرى الإنسان في تعديل الجينات فرصة "ليخلق ما هو أفضل"، أو يرى في الطبيعة نظاماً لا يُمس.
الرؤية هي انعكاس إدراكك على قراراتك وسلوكك.
ولهذا، الرؤية قد تكون صحيحة أو فاسدة، لأنك لا تحكم فقط على ما ترى، بل كيف ستتعامل معه.
رابعاً: البصر – النفاذ إلى العمق
البصر هو ما وراء الرؤية، هو إدراك عمق الشيء، ولبه، وسر تكوينه.
-
من يُبصر الشمس، لا يرى فقط ضوءها... بل يرى قدرتها على بثّ الحياة.
-
من يُبصر الحكم الإلهي، لا يراه قيدًا، بل يرى فيه حكمة تُصلح الحياة وتوازنها.
قال تعالى:
"لَعَلَّهُمْ يُبْصِرُونَ"
(السجدة: 27)
أي: يتفكرون في العمق لا في القشرة.
البصر هو مستوى الإدراك الذي يكشف “لماذا” وراء “ماذا”.
خامساً: البصيرة – التفعيل الواعي للعمق
البصيرة ليست مجرد إدراك، بل فعلٌ بعد فهم.
هي أن ترى العمق... ثم تُفعّله، فتُحوّله إلى قناعة وسلوك وموقف.
-
في الحكم الإلهي:
-
من ينظر إليه: يشعر بأنه عبء.
-
من يشاهده: يفكك عناصره، دون تفاعل.
-
من يراه: يربطه بظروفه.
-
من يُبصره: يعرف حكمته.
-
أما صاحب البصيرة: يُقبِل عليه حبًا، ويُطبقه قناعة لا خوفًا.
-
قال تعالى:
"قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ"
(يوسف: 108)
خاتمة: من تفاعل مع الصورة... ومن تفاعل مع المعنى
هذا العالم ليس للزينة، بل للتأمل.
هناك من نظر فلوّث البيئة... ومن أبصر فأدرك التوازن.
هناك من رأى المال فأفسد... ومن أبصر الفقر فبنى مستشفى.
كل مرحلة من الإدراك تصنع إنسانًا مختلفًا.
-
النظر يخلق ردود الأفعال.
-
المشاهدة تولّد الفهم.
-
الرؤية تُشكّل المواقف.
-
البصر يصنع الحكمة.
-
البصيرة... تبني الإنسان الذي يستحق أن يُورّث الأرض.
ففي أي مرحلة أنت؟
هل أنت ناظر؟ أم بصير؟ أم صاحب بصيرة؟
تعليقات
إرسال تعليق