القائمة الرئيسية

الصفحات

ظل الإنسان... كونٌ يتخلق من أثره

 


ظل الإنسان... كونٌ يتخلق من أثره

الإنسان لا يمضي من الدنيا ويترك جسده فقط، بل يترك ظله… لا نعني الظل الحسي الذي تراه الشمس، بل ظل أفعاله: ما زرعه من خير أو شر، ما فعله في السر والعلن، ما بثّه من فكر، أو نشره من خلق، أو ارتكبه من فساد.
ذلك الظل لا يموت، بل يتمدد عبر الزمن، يتلاحم مع أفعال غيره، ويصنع في كل مرة كونًا جديدًا، يحتاج لمن يصلحه أو يباركه.

الأفعال لا تنتهي بانتهائنا

قد يظن الإنسان أن فعله ينتهي حين يفعله، لكن الحقيقة أعمق. فالقرآن الكريم بيّن أن العمل يمتد أثره، ويُبعث الإنسان يوم القيامة ليحاسب حتى على تبعات فعله:

"ووجدوا ما عملوا حاضرًا ولا يظلم ربك أحدًا"
(الكهف: 49)

كل فعل صغير — ككلمة، كهمسة، كصفقة فساد، كصدقة جارية — يبقى حاضرًا، لا يموت، لأنه يترك أثرًا في نظام الحياة، وكأن الإنسان يُشارك في "خلق" واقع جديد بأفعاله.

من قتل نفسًا... ظلّه دمٌ لا يجف

حين يُقال إن من قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا، فهذه ليست مبالغة بل قانون روحي:

"مَن قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا"
(المائدة: 32)

فقتله لا يُطفئ روحًا واحدة فقط، بل يُولد ثقافة عنف، وموجات ثأر، وألمًا تنتقل شرارته عبر أجيال. هذا هو ظلّه، فعلٌ واحد يصنع عالَمًا من الخراب، ومثله في الخير، من أحياها — بالدواء، بالعلم، بالكلمة — فكأنما أحيا الناس جميعًا.

الفساد... ظلّ لا يُرى لكنه يهدم

حين يسرق إنسان، أو يغش، أو يفسد في منصب، فهو لا يرتكب فعلاً معزولاً، بل يُطلق عدوى من الانهيار الأخلاقي تنتقل لغيره، وتُطبع في نفوس من رآها ولم ينكرها:

"ولا تبغِ الفسادَ في الأرض إن الله لا يحب المفسدين"
(القصص: 77)

إن المفسد لا يُفسد وحده، بل يُنبت في الأرض فسادًا يتشعب: في النفوس، في المؤسسات، في تربية الأبناء، في أمانة التجار، في عدالة القضاة.

الظل الصالح... امتداد حياة بعد الموت

كما للشر ظله، فللخير أيضًا ظله. بل هو الظل الطيب، الممدود في الناس. فالصدقة الجارية، والعلم النافع، والولد الصالح، كلها آثار لا تنتهي:

"إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين"
(يس: 12)

"وآثارهم" أي ما خلّفوه من عمل له أثر، حتى بعد وفاتهم.

وإصلاح الكون الجديد... مسؤولية جماعية

حين يترك الإنسان ظلاً من الفساد، فإصلاح ذلك لا يتم إلا بمجهود جماعي، يشبه دخول المسجد الذي كان قد هُدم، كما قال الله عن دخول بني إسرائيل للقدس بعد فسادها:

"ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين"
(المائدة: 21)

إصلاح الأرض يتطلب مواجهة، دخولًا شجاعًا كما دُخِل المسجد أول مرة، وعودةً للحق بلا خوف.


خاتمة

ظل الإنسان هو حياته الحقيقية، هو ما يستمر بعده، هو كونه الموازي، الذي يخلقه بكل فعل، ويبعث عليه.
فلا تستصغر كلمة، ولا تحتقر نظرة، ولا تستهين بسرقة، ولا تتهاون في فساد، فكل شيء يُكتب، ويظلّ يُشكّل العالَم من بعدك.

"فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرًا يره"
(الزلزلة: 7–8)

فاختر ظلك، واختر كونك، واختر الأثر الذي تحب أن تراه واقفًا بجانبك يوم العرض.

تعليقات