القائمة الرئيسية

الصفحات

هل تعبئة جيش الاحتلال في غزة مقدمة للتهجير ومواجهة مع مصر؟

 


هل تعبئة جيش الاحتلال في غزة مقدمة للتهجير ومواجهة مع مصر؟

تحليل استراتيجي في أهداف الحشد العسكري الإسرائيلي وأبعاده الإقليمية


مقدمة:

أثار إعلان إسرائيل عن تعبئة عسكرية ضخمة لحوالي 450 ألف جندي، معظمهم من القوات البرية، حول قطاع غزة وفي عمق عملياته، تساؤلات استراتيجية خطيرة. فبهذا العدد، تكون إسرائيل قد دفعت بجلّ قواتها النشطة والاحتياطية إلى جبهة واحدة، رغم انفتاح احتمالات التصعيد على جبهات أخرى مثل لبنان، سوريا، أو البحر الأحمر. ويُطرح السؤال الجوهري: هل الهدف فقط عسكري، أم أن وراء الحشد أجندة خفية تتعلق بترحيل الفلسطينيين قسرًا وممارسة ضغط مباشر على مصر؟


أولًا: أبعاد التعبئة الإسرائيلية ومؤشراتها الميدانية

هذا الحشد الضخم لا يتناسب مع حجم القطاع الجغرافي لغزة أو مع الأهداف المعلنة من قبل القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية. في الظروف التقليدية، فإن العملية العسكرية داخل غزة كانت تستلزم وحدات محدودة مدعومة جوًا ومدفعيًا، لكن زج نصف مليون جندي، يعكس وجود أهداف أبعد من ملاحقة عناصر حماس أو البحث عن رهائن.

وتؤكد طبيعة العمليات في رفح – وهي منطقة مكتظة بالنازحين – أن إسرائيل تعتمد تكتيك "الأرض المحروقة"، دون مراعاة للتواجد المدني الكثيف. إن استهداف المخيمات والمدارس والملاجئ وحتى مناطق تصنفها الأمم المتحدة بأنها "آمنة"، يدل على أن الهدف العسكري ليس منفصلًا عن مشروع ضغط شامل على السكان لدفعهم إلى حافة النزوح الجماعي.


ثانيًا: مشروع التهجير القسري – هل أصبح واقعًا يتشكل؟

هناك تراكم واضح في المؤشرات التي تدل على أن إسرائيل تحاول فرض أمر واقع جديد في غزة يتضمن تقليص الكثافة السكانية عبر التهجير، سواء بصورة مباشرة أو عبر "سياسة الطرد غير المعلن".

فمن جهة، سُربت وثائق ومقترحات من مراكز أبحاث إسرائيلية ومن داخل دوائر رسمية – أبرزها وزارة الاستخبارات – تقترح نقل السكان الفلسطينيين إلى مناطق أخرى، وتحديدًا إلى شمال سيناء. هذه الرؤية تتحدث عن "حل دائم" عبر تفكيك البنية السكانية في غزة.

ومن جهة أخرى، فإن فرض الحصار الشامل، تدمير البنية التحتية المدنية، قطع إمدادات المياه والكهرباء والدواء والغذاء، كلها أدوات تخلق بيئة غير قابلة للعيش، تدفع السكان إلى البحث عن النجاة خارج حدود القطاع، خصوصًا في اتجاه مصر.

كما أن إعلان الجيش الإسرائيلي عن نيته فرض منطقة أمنية عازلة على امتداد حدود غزة – بما يشمل حدودها الجنوبية مع مصر – يعكس اتجاهًا نحو تقليص الرقعة الجغرافية المتاحة لسكان غزة. هذا الإجراء وحده يكفي لتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين قسرًا من أماكن إقامتهم.


ثالثًا: الموقف المصري واحتمالات المواجهة غير المباشرة

مصر من جانبها عبّرت، في كل المحافل، أن سيناء ليست ولن تكون موطنًا بديلًا للفلسطينيين. فقد أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي ووزارة الخارجية وأجهزة الأمن المصرية أن أي محاولة لفتح باب التهجير إلى أراضيها هي بمثابة اعتداء على الأمن القومي المصري.

وقد سارعت القاهرة إلى اتخاذ إجراءات ميدانية لحماية حدودها، من خلال تعزيز الانتشار العسكري، وبناء الجدار الحدودي الفولاذي الذي يمتد عميقًا في الأرض، فضلًا عن المنطقة العازلة التي أُنشئت في سيناء خلال السنوات الماضية.

لكن التوتر بات واضحًا رغم عدم التصعيد العلني. فالمؤسسة المصرية تدرك أن إسرائيل تحاول خلق واقع ميداني يُجبرها على اتخاذ قرار صعب، إما بفتح الحدود لاستيعاب الكارثة الإنسانية، أو بمواجهة خطر انهيار الوضع على بوابة رفح.

وفي حال تطورت الأمور إلى تدفق جماعي نحو الحدود، أو محاولة فرض ممر آمن بالقوة، فإن مصر قد تضطر إلى اتخاذ إجراءات دبلوماسية صارمة، أو حتى تدخل أمني محدود، لحماية حدودها ومنع المساس بسيادتها.


رابعًا: السيناريوهات المحتملة والأهداف الخفية من الحشد

القراءة الاستراتيجية لحشد الجيش الإسرائيلي تفتح الباب أمام عدة سيناريوهات، أبرزها:

  • السيناريو الأول يتمثل في استمرار العمليات العسكرية المكثفة داخل رفح دون عبور الخطوط الحمراء، وهو ما يعني محاولة سحق المقاومة، لكنه سيبقى في حدود لا تستفز مصر بشدة، مع بقاء الباب مفتوحًا لتضييق الخناق على السكان فقط.

  • السيناريو الثاني هو قيام إسرائيل بإحداث أزمة إنسانية ضخمة، من خلال تدمير شامل للبنية التحتية وحرمان المدنيين من كل مقومات الحياة، بحيث يصبح الخروج من غزة "خيارًا اضطراريًا"، دون إعلان رسمي عن التهجير. هذا سيناريو بالغ الخطورة لأنه يدفع مصر إلى معضلة أخلاقية واستراتيجية.

  • السيناريو الثالث يتضمن تنفيذ خطة ممنهجة لدفع مئات الآلاف نحو الحدود المصرية، عبر فتح ممرات يُسوّق لها على أنها "إنسانية"، بينما تكون فعليًا مسارات تهجير، مما قد يؤدي إلى أزمة دبلوماسية حادة أو حتى اشتباك حدودي محدود.

  • أما السيناريو الرابع، وهو الأخطر، فيتعلق بإعادة رسم الواقع الديمغرافي في غزة بالكامل بالقوة، كخطوة نهائية تكرّس التهجير الجماعي كأمر واقع، وتدفع بالمجتمع الدولي إلى التكيف معه بعد حدوثه، بدلًا من منعه.


خاتمة:

من الواضح أن الحشد العسكري الإسرائيلي الهائل لا يمكن تفسيره بأهداف عسكرية تقليدية فقط. فالأدلة المتراكمة تشير إلى أن هناك مشروعًا استراتيجيًا أوسع، يتضمن تهجيرًا جزئيًا أو شاملًا لسكان غزة، ومحاولة فرض هذا الواقع على مصر بالقوة الناعمة أو الصلبة.

مصر حتى الآن تمارس ضبط النفس ومرونة محسوبة، لكنها تستعد لجميع الاحتمالات. فأي محاولة لفرض تغيير ديمغرافي في غزة ستُعد تجاوزًا خطيرًا للخطوط الحمراء المصرية، وقد يُشعل أزمة إقليمية، أو حتى مواجهة محدودة، بين دولتين ترتبطان باتفاقات سلام، ولكن تقفان اليوم على حافة أزمة استراتيجية معقدة.

تعليقات