الأسطورة المصنوعة: لماذا تُنسب النبوءات الغامضة زورًا إلى محيي الدين بن عربي؟ ولماذا يُعد تداولها خطرًا فكريًا ودعوة للتواكل؟
مقدمة
في فترات الاضطراب السياسي والتوترات الإقليمية، تكثر على وسائل التواصل الاجتماعي نصوص غامضة، تُشبه النبوءات، وتُنسب زورًا إلى كبار العلماء والأولياء، لعلّ أبرزهم الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي. وتُستخدم هذه النصوص لإثارة الغموض، أو دعم مواقف سياسية، أو بث الأمل أو الخوف لدى الجمهور.
أحد أشهر هذه النصوص، التي انتشرت مؤخرًا، ما يلي:
"ويا ويل فتى اليهود النائح من الجواد الجامح، القائد الفاتح، قيل: ومن فتى اليهود يا شيخ الدين؟.. أقول اسمه من (اليمين) وليس من أهل اليمين، ونداؤه (نتن) الرائحة وكريهة كالثوم، يدبر لينال الكنانة، فتنكسر قهراً أسنانه، ويتركه كل أعوانه، فيدخل أهل مصر قدسهم، ويمدحهم العالم بعد ذمهم، يتقدمهم فتى الفتيان، الساكن البركان، العالم بسر الأمان، ويكون الدخول بعد الآن نصر رمضان باثنين وأربعين حولا، ولا حول ولا قوة إلا بالله."
يتم تداول هذا النص على أنه "نبوءة قالها ابن عربي منذ قرون"، رغم أنه لا وجود له في أي مصدر موثوق من كتبه، بل يفتقر لأي توثيق علمي.
فلماذا تُنسب هذه الأقوال إليه؟ ولماذا تُعدّ هذه الظاهرة خطيرة؟ وهل فيها دعوة للتواكل والتخدير؟ هذا ما سنوضحه في هذا المقال.
أولًا: من هو ابن عربي؟
الشيخ محيي الدين بن عربي (558هـ - 638هـ) هو أحد أعلام التصوف الإسلامي، ويُلقّب بـ "الشيخ الأكبر". عاش في الأندلس وسوريا، وكتب عشرات الكتب التي تمزج بين الفلسفة والعرفان والتأمل الروحي. من أبرز كتبه:
-
الفتوحات المكية
-
فصوص الحكم
-
الوصايا
أسلوبه الصوفي اعتمد على الرمزية والتأويل، لكنه لم يكن يومًا من مدّعي الغيب أو التنجيم أو "النبوءات" بالمفهوم الشعبي.
ثانيًا: طبيعة النصوص المنسوبة إليه زورًا
تتصف النصوص المزوّرة والمنسوبة لابن عربي بعدة خصائص:
-
الغموض والإيحاءات السياسية، حيث يُقحم فيها أسماء معاصرة بطريقة رمزية.
-
اللغة المشحونة، مثل "فتيان، الكنانة، نصر رمضان، نتن الرائحة...".
-
الزعم بتحديد زمان ومكان الأحداث، مثل قولهم: "نصر رمضان باثنين وأربعين حولا".
-
غياب المصدر: لا يُذكر كتاب أو فصل أو تحقيق يمكن الرجوع إليه.
ثالثًا: لماذا تُنسب إلى ابن عربي تحديدًا؟
-
أسلوبه الرمزي في كتبه الأصلية يجعل البعض يظن أنه يمكن أن يُنتج مثل هذه "النبوءات".
-
مكانته الصوفية والروحية تُغري البعض بإقحامه لإضفاء قداسة على النصوص.
-
قلة الاطلاع على كتبه الفعلية بين جمهور العامة، مما يُسهّل تمرير النصوص الملفّقة.
-
الرغبة في التلاعب بالعواطف السياسية أو الدينية من خلال أوهام التنبؤ والنصر القريب.
رابعًا: الأثر السلبي لمثل هذه النصوص
1. تشجيع التواكل والتقاعس
الإيمان بهذه النبوءات يُشجّع الناس على انتظار "المخلّص" أو "النصر المحتوم"، دون سعي أو إعداد أو تخطيط. وهذا ينافي مفهوم التوكل الإيجابي الذي يدعو إليه الإسلام، كما قال النبي ﷺ:
"اعقلها وتوكل."
أي: اربط الجمل أولًا، ثم توكل على الله، لا العكس.
2. إضعاف الوعي والتحليل الواقعي
بدلاً من فهم الواقع وتحليله، يُستبدل الفكر العلمي والشرعي بنصوص خرافية تُقدَّم كحقائق. وهذا يُضعف العقول ويُشيع ثقافة الاستسلام.
3. تشويش على الدين والشرع
نسبة نصوص باطلة إلى ابن عربي أو غيره من العلماء تُلبس الباطل ثوب الحق، وتُدخل في الدين ما ليس منه. في حين أن الكذب على العلماء جريمة أدبية ودينية.
4. تغذية الفتن السياسية والطائفية
تُستخدم هذه "النبوءات" في إثارة الصراعات أو التلميح إلى أحداث أو شخصيات معاصرة بطريقة غير مسؤولة، مما يؤدي إلى الفتنة والبلبلة.
خامسًا: آراء العلماء والباحثين
-
د. عثمان يحيى (محقق الفتوحات المكية) أكد أن كتب ابن عربي لا تحوي نبوءات من هذا النوع.
-
د. نصر حامد أبو زيد نبّه إلى سهولة التلاعب باسم ابن عربي بسبب تعقيد نصوصه.
-
علماء الأزهر أشاروا مرارًا إلى خطورة الكذب على العلماء أو نسبتهم إلى التنجيم أو الغيب.
سادسًا: موقف الإسلام من الغيبيات
الإسلام يرفض ادعاء الغيب. يقول الله تعالى:
"قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله" [النمل: 65]
وما لم يكن عن وحي أو دليل شرعي صحيح، فلا يجوز الاعتداد به، ولا نسبته إلى الصالحين والعلماء.
سابعًا: ما الذي يجب فعله؟
-
عدم تصديق أو نشر أي "نبوءة" منسوبة لابن عربي أو غيره إلا بتحقيق علمي دقيق.
-
التحذير من تداول هذه النصوص في وسائل الإعلام أو المنابر العامة.
-
دعم الثقافة النقدية والتحليلية في فهم الواقع بدل التعلق بالأوهام.
-
تعزيز مفاهيم العمل والإعداد والمسؤولية بدل انتظار التغيير من الغيب أو "المنقذ الغامض".
خاتمة
إن تداول النبوءات المنسوبة زورًا إلى محيي الدين بن عربي أو غيره من أعلام الأمة، لا يُعد فقط خطأً تاريخيًا أو علميًا، بل هو خطر فكري وعقدي وسلوكي. لأنه يُرسي ثقافة التواكل، ويُضعف العزيمة، ويشوّه صورة العلماء، ويشغل الناس عن أدوات التغيير الحقيقية: الوعي، والإيمان، والعمل.
قال الله تعالى:
"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم." [الرعد: 11]
فلنكن من الذين يُغيرون واقعهم بإرادة، لا من الذين يُخدّرون عقولهم بخرافات ملفقة.
تعليقات
إرسال تعليق