الطفل الممسوس: بين الوهم النفسي وتأثير البيئة الأسرية
مقدمة
تُعد ظاهرة "الطفل الممسوس" من أكثر المعتقدات انتشارًا في المجتمعات التقليدية، خاصة في مصر، حيث يُفسَّر أي سلوك غير طبيعي للطفل على أنه نتيجة "مس شيطاني" أو "تلبّس بالجن". ولكن، بالنظر إلى الأسباب الحقيقية، نجد أن الأمر مرتبط بشكل أساسي بالعوامل النفسية والتربوية والبيئية، وليس بقوى خارقة.
1. دور الوالدين في ترسيخ فكرة المس عند الأطفال
أ. غرس الخوف في عقل الطفل منذ الصغر
في كثير من البيوت المصرية، يتم تخويف الأطفال بقصص "الجن" و"العفاريت" كوسيلة للتحكم في سلوكهم، مثل:
"متفتحش الدولاب بالليل، فيه جن جوّاه!"
"لو مسكت المصحف وإنت مش متوضي، العفريت هيطلع لك!"
هذه العبارات تجعل الطفل يربط أي شعور بالخوف أو القلق بوجود كائنات غير مرئية، مما يهيئ عقله لتصديق فكرة المس.
ب. التفسير الخاطئ للاضطرابات النفسية والبدنية
بعض الأطفال يعانون من اضطرابات مثل:
الصرع: نوبات تشنجية فجائية قد تُفسَّر على أنها "تلبس".
التوحد: صعوبة في التواصل تجعله يبدو وكأنه "منعزل في عالم آخر".
اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD): يجعل الطفل مفرط النشاط، مما قد يُفسَّر على أنه "تأثير قوة خارجية".
بدلاً من اللجوء إلى العلاج الطبي، يُحضر الأهل "شيخًا" للقراءة عليه، مما يعزز الوهم بأن الطفل ممسوس.
ج. استغلال فكرة المس للهروب من المسؤولية الأسرية
بعض الآباء والأمهات يرفضون الاعتراف بأنهم مقصرون في تربية أطفالهم، فيلقون باللوم على "الجن".
إذا كان الطفل عدوانيًا أو عنيدًا، بدلاً من البحث عن أسباب سلوكية، يُقال إنه "مسكون بروح شريرة".
2. العلاقة بين المال الحرام وانتشار الظاهرة
أ. الطاقة السلبية الناتجة عن الكسب غير المشروع
المال الحرام، مثل الرشوة أو الغش أو الاستيلاء على حقوق الآخرين، يخلق جوًا من التوتر الدائم في المنزل.
يشعر الوالدان بالذنب الداخلي، لكن بدلاً من مواجهة المشكلة، يبرران سوء الحظ والمشاكل العائلية بأنها "عين أو حسد أو مس شيطاني".
هذا الإحساس بالذنب ينعكس على تربية الأطفال، فيصبحون أكثر عُرضة للاضطرابات النفسية.
ب. تأثير الطعام الحرام على الصحة النفسية والعقلية
يُقال إن "المال الحرام يُفسد النفس"، وهذا ينطبق أيضًا على الأكل الحرام.
الأطعمة الملوثة أو غير المشروعة قد تؤثر على كيمياء الدماغ، مما يزيد من القلق والتوتر والعدوانية لدى الأطفال.
بعض الدراسات تشير إلى أن الطعام غير الصحي المليء بالمواد الحافظة قد يؤثر على التركيز والمزاج، مما يجعل الطفل مضطربًا نفسيًا، وهو ما قد يُفسَّر على أنه "مس".
3. هروب الوالدين من طاقتهم السلبية وإسقاطها على الأطفال
أ. الوالد المنغمس في الحرام يبحث عن شماعة لمشاكله
عندما يشعر الأب أو الأم بأن حياتهم مليئة بالمشاكل بسبب المال الحرام، قد يُسقطون هذا الفشل على الأبناء.
الطفل يصبح "كبش فداء"، وكل أزمة تواجه الأسرة تُربَط بالمس أو السحر، بدلاً من مواجهة الأسباب الحقيقية.
ب. استخدام المس كغطاء للاضطرابات النفسية داخل الأسرة
في بعض الأسر، يعاني الوالدان من الاكتئاب أو القلق أو اضطرابات الشخصية، لكنهم لا يعترفون بذلك.
بدلاً من البحث عن علاج، يُقنعون أنفسهم بأن طفلهم "مسكون" وأن هناك قوى خفية تُدمر حياتهم.
هذا الاعتقاد يُبعدهم عن تحمل مسؤولية تغيير نمط حياتهم، ويمنحهم مبررًا للاستمرار في دائرة السلبية.
4. كيف نواجه هذه الظاهرة؟
أ. التوعية النفسية والتربوية
يجب على الأسر أن تفهم أن كثيرًا من المشاكل السلوكية للأطفال لها تفسيرات طبية وعلمية.
دعم التثقيف النفسي في المدارس والمجتمعات قد يُساعد على الحد من هذه المعتقدات الخاطئة.
ب. مواجهة الأسباب الحقيقية للمشاكل الأسرية
بدلاً من الاعتقاد بأن "المس" هو سبب المشكلات، يجب البحث عن جذور المشاكل الأسرية، مثل:
غياب التواصل الأسري.
الإهمال العاطفي للأطفال.
التوتر الناتج عن المال الحرام.
ج. الابتعاد عن مصادر السلبية والطاقة المدمرة
التخلص من المال الحرام، والبحث عن مصادر رزق نزيهة، قد يُغيّر الطاقة العامة في المنزل.
الاهتمام بالصحة النفسية للأطفال، والتعامل مع مشكلاتهم بطرق علمية وليس بالخرافات.
الخاتمة
ظاهرة "الطفل الممسوس" ليست سوى انعكاس لمزيج من العوامل النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية التي تؤثر على الأسرة. عندما يغرق الوالدان في المال الحرام والطاقة السلبية، يصبح الأطفال هم الضحية، وتُبرَّر مشكلاتهم بالمسّ والسحر بدلاً من مواجهة الواقع. إن إصلاح هذه الظاهرة يتطلب وعيًا تربويًا، وتغييرًا في الفكر المجتمعي، والبحث عن حلول حقيقية بدلاً من إلقاء اللوم على المجهول.
تعليقات
إرسال تعليق