"صراع الحقائق المطلقة: بين إله النور وإله العدم... وهل ننجو من ديالكتيك الأديان؟"
مقدمة: الحقيقة التي تمزقنا
في عالمٍ تتعدد فيه الأديان والمذاهب والعقائد، يبدو أن كلّ طرف يرفع راية "الحقيقة المطلقة" غير القابلة للنقاش. الحقيقة عند هذا دين، وعند ذاك مذهب، وعند ثالث عقيدة فلسفية. ولكن ماذا لو أن كل تلك الحقائق تصادمت؟
هنا يولد الصراع، ويتحوّل الاختلاف من جدل معرفي إلى قتال وجودي، وتُستبدل الدعوة بالسيف، والحجة بالنار.
فهل يمكن فعلاً أن نعيش معًا بسلام رغم اختلاف المطلقات؟ وهل يكفي أن نقول "لا إله إلا الله" لنتجاوز هذا النزاع؟ أم أن في أعماق اللاهوت، حربًا أزلية بين "إله النور" و"إله العدم" لا مفر منها؟
أولاً: مطلقات الأديان... من الإيمان إلى الامتلاك
جميع الأديان السماوية والوثنية تتشارك في شيء جوهري: اليقين المطلق بامتلاك الحقيقة.
-
في الإسلام: "إن الدين عند الله الإسلام"، ويُفهم أحيانًا أن الإسلام هو الشكل النهائي الكامل للحقيقة الإلهية.
-
في المسيحية: "أنا الطريق والحق والحياة، لا يأتي أحد إلى الآب إلا بي" – قالها المسيح كما يُروى في إنجيل يوحنا.
-
في اليهودية: يعتبر اليهود أنفسهم "شعب الله المختار"، وأن التوراة عهد إلهي لا يُناقش.
-
في البوذية والهندوسية: تختلف المفاهيم، لكنها تُقدّم "الدّارما" كطريق خلاص، ومن ينكره يعيش في الجهل.
لكن عندما تتعدد الحقائق المطلقة... تنشأ المفارقة القاتلة:
إما أن "كلنا على حق" (وهي معادلة مستحيلة منطقياً)، أو أن "البقية على باطل"، ما يجعل الاختلاف قابلًا للشيطنة.
ثانيًا: متى يتحوّل الاختلاف إلى إرهاب؟
الصراع العقائدي لا يصبح عنيفًا إلا عندما:
-
تُقدَّس أدوات الصراع كما تُقدّس العقيدة:
مثلما تحوّل السيف إلى رمز ديني، أو تُصبح التفجيرات "جهادًا"، أو تُقنن المذابح باسم الرب. -
يُربط الإيمان بالهوية السياسية أو العرقية:
-
الحروب الصليبية لم تكن فقط دينية، بل حملة استعمارية تحت غطاء الصليب.
-
الصراع السنّي الشيعي اليوم يتجاوز العقيدة ليمثل نفوذًا سياسيًا على الأرض.
-
اضطهاد المسلمين في الصين أو الروهينجا في ميانمار هو صراع ديني مغلف بصراعات قومية.
-
-
فشل النظام الفكري في استيعاب الآخر:
عندما يُرفض الآخر رفضًا وجوديًا، لا فكريًا، يتحول من "مخالف" إلى "خطر يجب القضاء عليه".
ثالثًا: "لا إله إلا الله"... هل تكفي للخلاص من الفوضى؟
"لا إله إلا الله" ليست مجرد عبارة توحيدية؛ إنها إعلان فكري بإزالة كل وساطة بين الله والإنسان.
فإذا اتفقنا أن هذه الحقيقة هي المظلة الكبرى، يبقى ما دونها نقاشًا بشريًا قابلًا للاختلاف:
-
السنة والشيعة
-
الأشاعرة والسلفية
-
الصوفية والظاهرية
-
الديانات الأخرى التي تؤمن بإله واحد كاليهودية أو حتى بعض الفرق المسيحية
لكن المشكلة أننا لا نقبل بهذا التنازل، لأن الحقيقة المطلقة تُستخدم كرمز للسيطرة:
-
من يتحكم في تعريف "الحق"، يتحكم في من يدخل الجنة.
-
ومن يملك مفاتيح الجنة، يملك رقاب الناس في الدنيا.
رابعًا: "إله النور" و"إله العدم"... الصراع الرمزي الأبدي
في الأساطير القديمة، مثل الزرادشتية، وُجد إله للنور (أهورا مزدا) وإله للظلام (أنغرا ماينيو).
وفي الديانات الإبراهيمية، يُرمز للخير بالله، وللشر بإبليس.
لكن في الواقع، الناس يختلفون حول من هو "النور" ومن هو "العدم":
-
داعش ترى نفسها في النور، والآخرين في العدم.
-
الغرب الليبرالي يرى نفسه في النور، والمسلمين في ظلام الإرهاب.
-
الصهاينة يرون أنفسهم أبناء الوعد، والعرب أدوات في فوضى العدم.
كل طرف يقف في النور... ويرى عدوه في العدم. وهكذا يستمر الصراع.
خامسًا: أمثلة واقعية وتاريخية
-
الحروب الصليبية: آلاف القتلى باسم الله والمسيح... ولكنها كانت رغبة في الأرض والثروة.
-
محاكم التفتيش: كل من لا يؤمن "بصورة الرب الصحيحة" يُعذّب حتى الموت.
-
تفجيرات 11 سبتمبر: دين في مواجهة حضارة، لكنها كانت أيضًا ردة فعل على تدخلات عسكرية.
-
احتلال فلسطين: صراع ديني/قومي/تاريخي... تُبرره نبوءات وأساطير، ويستمر حتى اليوم.
سادسًا: هل من مخرج؟ كيف ننجو؟
-
الاعتراف بأن الحقيقة المطلقة الوحيدة هي توحيد الله
وما دون ذلك يجب أن يُترك لرحابة الاجتهاد، لا ضيق التكفير. -
نزع القداسة عن أدوات السياسة
الدين ليس سيفًا، ولا سياسة، ولا خطاب كراهية. -
القبول بأننا لن نتفق على كل شيء... وهذا طبيعي
"ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين" -
الحذر من خلق "عدو مفترض" لتوحيد الصفوف
كلما هدأت الفتن، يُعاد تدوير العدو مرة أخرى.
خاتمة: الهروب من فم الحوت
كما ابتلع الحوت يونس عليه السلام حين قرر الهروب من دعوته، كذلك تبتلعنا الفتن كلما حاولنا الهروب من مسؤولية التفكر والمراجعة.
لن ننجو من صراع المطلقات ما دمنا نُصرّ على احتكارها، ولن نخرج من رحم الفوضى ما لم نُقر أن النجاة ليست في الهروب من العدو، بل في التعرف على أنفسنا أولاً.
فلعل النور يبدأ حين نُدرك أن الظلام قد يكون داخلنا، لا في الآخر.
تعليقات
إرسال تعليق