رحلة في أفق النفس:
بين غوغاء الهوّ، وتوازن الأنا، وصوت الأنا العليا… وإشراق الفؤاد، وصراع القلب، ودسائس الناصية الكاذبة، وميادين الصدر
من رحم الفلسفة النفسية الأوروبية، ومن ضياء الوحي القرآني، ننسج معاً رواية فريدة عن صراع النفس الإنساني.
سنبحر أولاً في عوالم فرويد، ثم ننتقل إلى أفق القرآن، قبل أن نغوص في مقارنة تأملية تشدّنا بين المذهبين.
1. فصول الصراع عند فرويد
يحكي سيغموند فرويد أن النفس الإنسانية مسرح ثلاث قوى كبرى:
-
الهوّ (Id): ينبُض بالغريزة الخام، يطالب بالإشباع الفوري والرغبة الجامحة بلا اعتبار للواقع أو القيم.
-
الأنا (Ego): يلتقط خيوط الهوّ ويوازن بينها وبين متطلبات العالم الخارجي؛ فلا يرضى بإشباعٍ مضر، ولا يسلب الحياة من نوازعها.
-
الأنا العليا (Superego): صدى الضمير والقيم المكتسبة، تنبه الأنا إلى حدود الأخلاق وتراقب الهوّ بحذر الحُكّام على مواطن القوة والضعف.
في صراعٍ دائم، ينهل الهوّ من بئر الغرائز، فيطفح أحياناً، فلابدّ للأنا من ضبط النفس والتوسط، في حين تلوح الأنا العليا بزوج من الميزان الأخلاقي كي لا تنحرف البشرية في متاهات الجشع أو العنف.
2. طبقات النفس في القرآن الكريم
يقدم القرآن صوراً ينبض بها الإنسان: الفؤاد، القلب، الناصية الكاذبة، والصدر، ولكلٍ منها مقام وواقع:
-
الفؤاد: موضع ميزان الحق والباطل، ينبّه إلى بارقة الإيمان ويستشف وساوس الشيطان.
"وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا" (سورة الإسراء 36)
"مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى" (سورة النجم 11) -
القلب: مركز التفكير والميلان، يستقبل نور الفؤاد ثم ينظر إليه بعيون العقل، وقد يميل نحو شهوات الجسد فيغدو متأرجحاً.
"أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" (سورة الحج 46)
-
الناصية الكاذبة: حين يطغى شغف البدن على صوت الفؤاد، تُزيّف الناصية الكاذبة الحقّ وتبرّر الباطل.
"نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ" (سورة العلق 16)
-
الصدر: خزّان تجارب النفس؛ يتلقّى ثمار صراع الفؤاد والقلب والناصية، ليكون رصيد الأفعال التي ينبني عليها المستقبل.
"أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" (سورة هود 5)
"أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ" (سورة العاديات 9 - 11)
3. مقارنة بين المنهجين
في مقابلة بين بنيوية فرويد ورؤية القرآن، تتجلّى أوجه الشبه والاختلاف:
-
مصدر الضبط:
-
فرويد: الأنا العليا هي السجان الأخلاقي، تنشأ من التنشئة الاجتماعية والثقافة.
-
القرآن: الفؤاد هو المشرع الربّاني الداخلي، والقلب هو القاضي الفطري، والضمير (النفس اللّوّامة) هو معقب النفس بعد المعصية.
-
-
آلية الصراع:
-
فرويد: صراع ثلاثي بين الهوّ الذي يغري، والأنا الذي يوازن، والأنا العليا التي تراقب.
-
القرآن: جذوة الفؤاد تلهم، فالقلب يزن ويقرر، وإذا غلبت الشهوات ظهر الفساد (الناصية الكاذبة)، فتُحفظ نتائجه في الصدر.
-
-
المآل النفسي:
-
فرويد: شفاؤه يكمن في وعي الأنا العليا للهوّ وضبط الأنا لتجنّب الصراعات الهدّامة.
-
القرآن: رقي النفس بتحصين الفؤاد بالذكر، وتطهير القلب من الأهواء، وتخليص الصدر من غياهب الناصية الكاذبة حتى تجتمع النفس المطمئنّة.
-
4. خاتمة: نحو النفس المتوازنة
هنا يكمن جوهر الرحلة:
أن نمكّن الفؤاد من إصدار الحكم بلا مهادنات، ونجهز القلب بفن التأمّل حتى لا ينجرف في دوّامة الشهوات، ونكشف خداع الناصية الكاذبة إذا حاولت تزييف الوجدان، ونطهر الصدر من ثقل الذنوب حتى تصبح النفس طاهرة راضيةً تسعد بها الروح والبدن.
في هذا المزج الشيق بين علم النفس الحديث ونور القرآن الكريم، نكتشف أن الإنسان مدعوٌّ إلى أعلى درجات الوعي الذاتي: ليتحكّم في غرائزه لا بأن يخضع لها، ولينساق نحو هدى القلب لا بأن يبيع ضميره لشهوة الولاعات العابرة.
فإذا اجتمعت الفُؤادىّة الربّانية، والعقل القلبي الحكيم، والضمير اللوّام الرحيم، والصدر النقي المستقرأ لتجارب الماضي، صعدنا جميعاً إلى ذرى السلامة والسعادة الأبدية.
تعليقات
إرسال تعليق