القائمة الرئيسية

الصفحات

"حين يغلق المؤمن كتاب الله… ويفتحه الكافر: جدلية العقل والنقل في حضرة المطلق"

 


"حين يغلق المؤمن كتاب الله… ويفتحه الكافر: جدلية العقل والنقل في حضرة المطلق"

تمهيد: من ظلال الإيمان إلى دوائر العمى العقائدي
نعيش في عالمٍ يفيض بالمعاني، لا لأننا نملك مفاتيح المطلق، بل لأننا نُدرك كم نحن محدودون. وإذا كانت المعرفة الحقة تبدأ من الإقرار بجهلنا، فإن أولى خطواتنا إلى الله لا تكون في ادّعاء الإحاطة، بل في التواضع أمام الغيب، والتأمل المستمر في آياته… تلك التي نُسميها "مسطورة" و"منشورة".

لكن ماذا يحدث حين يعتقد المؤمن أنه امتلك الحقيقة المطلقة، وأن لا تجديد في الفهم، ولا تأويل بعد التأويل؟ وماذا يحدث حين ينكفئ العقل عن التدبر، متكئًا على النقل دون تجدد؟ هل تتحوّل بذلك النصوص إلى عُزلة فكرية؟ وهل تصبح العقيدة سجنًا للعقل بدلاً من أن تكون مفتاحًا للمعرفة؟

أولاً: الله المطلق والعقل النسبي
يقول تعالى:
{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} (الأنعام: 103)

الله في ذاته مطلق، أزلي، لا يحدّه زمان ولا مكان، ولا يُقاس بقياس المخلوق. أما عقولنا فهي نسبية، محدودة، تكوّنت في سياقات حسية واجتماعية وثقافية، وبالتالي فإن كل تصور نرسمه لله تعالى هو "تقريب" لا "إحاطة"، "محاولة" لا "امتلاك".

هنا تنشأ الفجوة الجوهرية بين القصد الإلهي المطلق والتصور العقائدي البشري. وهنا أيضًا يولد التحدي العقلي: كيف نفهم المطلق بعقل نسبي؟ وكيف نُفسّر كلامًا إلهيًا مطلقًا بلساننا المخلوق المحدود؟

ثانيًا: هل كان النقل بديلًا عن العقل؟ أم منتجًا له؟
حين نسمع من يُردد "العقل لا مكان له في العقيدة"، فإنما يُغلق الباب الذي فتحه الوحي نفسه، لأن القرآن لا يكتفي أن يُخاطب الروح، بل يطالب بالعقل، وبالتدبر، وبالسير في الأرض، لا الركون إلى الجمود.

قال تعالى:
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا؟} (محمد: 24)

النقل القرآني لم يُغلق باب الفهم، بل دعا إلى الترتيل والتأمل والتدبر، وهي مفردات عقلية وجدانية لا تقبل التلقين، بل تُطالب بالاجتهاد المتجدد.

إن القراءة التي تتكرر دون وعي لا تُفضي إلى علم، وإنما تُرسّخ الوهم بامتلاك الحقيقة. لهذا قال تعالى:
{وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس: 24)
{إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الروم: 28)

فلم تكن الآيات للخاملين، بل للعاقلين المتفكرين.



ثالثًا: التأويل المستمر… أم اجترار المعنى؟
كل من قرأ القرآن يعرف أنه لا يُنتهي عند معنى. كل مرة تفتح المصحف، تجد زاوية جديدة، ومفهوماً مختلفاً، لأنك أنت نفسك لست ذاتك. تغيّرت ظروفك، وازدادت خبراتك، ونضج وعيك.

ولكن حين نغلق النص على فهم قديم، ونرفض كل جديد بذريعة الثبات، فإننا نصنع من النص سجناً، لا سلّماً نحو الله.

فالقرآن كتاب حي، وكل تدبر جديد لا ينقض السابق، بل يُضيف إليه. كما أن فهم السابقين، مهما بلغ من العمق، يبقى بشريًا، محكومًا بسقف زمانهم.
وما أفسد الفكر إلا حين صار السلف يُعبد لا يُقتدى به.

رابعًا: الكافر يفتح كتاب الكون، والمؤمن يغلق كتاب الوحي؟


من المفارقات المؤلمة، أن من يؤمن بالله يظن أحيانًا أنه بلغ المنتهى، بينما من لا يؤمن يظل يُنقّب في المادة بحثًا عن الجوهر.

علماء فيزياء الكم اليوم يناقشون ما لم يبلغه العقل الميتافيزيقي، ويطرحون أسئلة عن تعدد الأكوان، وانهيار الزمن، وتشابك الجسيمات، و"عدم المحلية" — أي أنّ ما يحدث في بقعةٍ ما، يؤثر في نقطة بعيدة آنياً، وهي كلها مفاهيم تُلامس مفهوم الغيب الإلهي بشكل عجيب.

قال تعالى:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت: 53)

فكيف يُخزى المؤمن من ساحة التدبر، بينما الكافر يقترب من مفاتيح الماورائيات بوسائل العلم؟
كيف لمن أُوتي كتابًا أن يُغلقه، ولمن جُرّد من الوحي أن يفتحه على الطبيعة والتجربة؟

خامسًا: بين التقديس والتفعيل… مفترق الطريق
الفرق بين من "يقدّس" النص دون عقل، ومن "يُفعّله" بعقل، كالفرق بين من يُعلّق المصحف على الجدار، ومن يُنزله إلى قلبه وعقله وحياته.

وإذا كان الله قال:
{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (ص: 29)
فلا يُبارك الله كتاباً يُقرأ بلا عقل.


خاتمة: الإيمان ليس نهاية العقل، بل بدايته
الإيمان ليس السكون، بل الحركة نحو الغيب. ليس إغلاقًا على النص، بل انفتاحًا دائمًا على معانيه.
والمؤمن الذي يغلق عقله يبتعد عن الله، والكافر الذي يفتح عقله قد يكون أقرب إليه ممن ظن أنه على صراط مستقيم.

القرآن ليس "دليلاً مغلقاً"، بل نداءً مستمرًا للانفتاح.
فلا تكن ممن يعبد فهماً، بل كن ممن يتبع نورًا.
ولا تجعل فهمك لله حدًا له، فـ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}.

فالسؤال الأخير الذي عليك أن تجيب عنه:
هل تُجدد فهمك لتتقرب إلى الله؟
أم تحفظ فهمك القديم… وتبتعد عنه وأنت لا تدري؟



تعليقات