القائمة الرئيسية

الصفحات

حين يُعاد تسمية الألم: “المسّ والجن” كقناع اجتماعي للاضطراب النفسي

 


ليس كل ما يُنسب إلى الغيب غيبًا، ولا كل صرخة تُفسَّر بالمسّ صادرة عن كيان خفي. أحيانًا يكون ما نراه أمامنا نتاج علاقة معطوبة بين إنسان هشّ ومجتمع لا يسمح له بالاعتراف بضعفه، فيلجأ – دون وعي – إلى قناعٍ مقبول اجتماعيًا ليحتمي به من اللوم والعار.

في القطار، لم يكن المشهد عابرًا. مجموعة فتية يتداولون معتقداتهم عن المسّ، شاب يصغي، ينفعل، يقترب من الإيمان بالرواية الجاهزة. الاعتقاد هنا ليس فكرة، بل ملاذ. لأنه حين يقال للإنسان: “أنت ممسوس”، يُعفى من السؤال الأصعب: ماذا حدث لك؟ ومتى؟ ومن آلمك أول مرة؟

ذلك الشاب لم يكن يتحدث عن الجن بقدر ما كان يتحدث عن ذاكرة قديمة، عن كُتّاب، عن شيخٍ ضرب، عن قرآنٍ اقترن بالعقاب لا بالسكينة. العقل البشري لا ينسى الارتباطات الأولى. حين يُقترن المقدّس بالألم، ينشأ صراع صامت: الضمير يأمر بالحب، والجسد يرتد خوفًا. هذا التناقض لا يُحتمل طويلًا، فيبحث النفس عن حلّ يحفظ التوازن.

وهنا تتشكّل “الشخصية الدفاعية”.

ليست جنًّا، ولا تلبّسًا، بل بناء نفسي ذكي، وبدائي في آن واحد. شخصية تتولى قول “لا” بدلًا عن صاحبها العاجز عن الرفض. تقول “لا” بصوتٍ آخر، وبسلوكٍ آخر، وبهيئةٍ تُخرج الإنسان من دائرة المساءلة. المجتمع لا يغفر كراهية القرآن، لكنه يتعاطف مع “الممسوس”. لا يقبل رفض الزوج، لكنه يبرر “الحالة”. وهكذا يصبح العرض النفسي لغة تفاوض مع الجماعة.

الشخصية الدفاعية لا تولد من فراغ، بل من خوف مزدوج: خوف من مواجهة الذات، وخوف من مواجهة المجتمع. هي درعٌ عنيف، لأنها تؤدي وظيفة خطيرة: حماية شخصية متواكلة، خائفة، غير قادرة على الاعتراف. ولذلك تعمل في الظل، وتتكلم حين يصمت صاحبها، وتظهر حين يُطلب منه ما لا يحتمل.

المأساة لا تقف عند هذا الحد. الأخطر هو ما يُسمّى علاجًا.

حين يُفسَّر الاضطراب النفسي على أنه مسّ، يُعاقَب الجسد بدل أن يُفهم العقل. يُمسك الإنسان من أكثر مواضعه هشاشة، يُؤلم، يُهين، ويُقال له إن هذا “إخراج للجن”. في حالات النساء، يتضاعف العنف: جسدي، نفسي، وأخلاقي. ويُمارَس باسم الطهارة.

ما الذي يحدث نفسيًا؟
الشخصية الدفاعية، التي وُجدت للحماية، تصبح مصدر عقاب. فتنسحب. تختفي. لا لأنها شُفيت، بل لأنها انهزمت. يبقى المرض النفسي، لكن بلا مقاومة. سكونٌ يشبه ما بعد الصدمة، أو ما بعد الصعق الكهربائي: جسد مطيع، نفس مستسلمة، وألم لم يُعالج.

وهكذا نكون قد عالجنا العرض، وقتلنا الإشارة، وأبقينا الجرح.

المجتمع هنا شريك أصيل في المرض. لأنه لا يتيح لغة آمنة للاعتراف، ولا مساحة للقول: “أنا أكره لأنني تألمت”. فيُجبر الإنسان على اختراع رواية مقبولة، حتى لو كانت مدمّرة. الاعتقاد يصبح السلاح الأقوى، لأنه يريح الجميع: يريح الأسرة، ويبرئ المؤسسة، ويُسكت السؤال.

أما الشفاء الحقيقي، فليس في طرد ما لا وجود له، بل في مواجهة ما حدث فعلًا. في إعادة ربط المعنى بما انقطع. في فهم أن الكراهية أحيانًا ليست كفرًا، بل ذاكرة. وأن الصوت الذي يتغير ليس صوت جن، بل صوت طفل قديم لم يُسمَع يومًا.

حين نملك الشجاعة لإعادة تسمية الألم، فقط حينها، يسقط القناع، وتستعيد النفس حقها في أن تُفهم بدل أن تُدان.

انت الان في اول مقال

تعليقات