في زمنٍ تتبدّل فيه الحقائق وتتشابه الوجوه وتضيع البصائر بين ضجيج الصورة وسراب المعلومة، يغدو الإنسان رهين لعبة عقلٍ كبرى تُدار من داخله لا من خارجه. الدجال لم يعد حدثاً منتظَراً، بل حالةً قائمة تسكن وعينا حين نُؤله عقولنا ونُقصي المعنى عن الوجود. إن معركتنا الحقيقية ليست مع قوى الخارج، بل مع أوهام الداخل؛ مع تلك الأصوات التي تُقنعنا بأننا أحرار ونحن مكبّلون بسلاسل الفكر الموجّه.
في زمنٍ تتبدّل فيه الحقائق وتتشابه الوجوه وتضيع البصائر بين ضجيج الصورة وسراب المعلومة، يغدو الإنسان رهين لعبة عقلٍ كبرى تُدار من داخله لا من خارجه. الدجال لم يعد حدثاً منتظَراً، بل حالةً قائمة تسكن وعينا حين نُؤله عقولنا ونُقصي المعنى عن الوجود. إن معركتنا الحقيقية ليست مع قوى الخارج، بل مع أوهام الداخل؛ مع تلك الأصوات التي تُقنعنا بأننا أحرار ونحن مكبّلون بسلاسل الفكر الموجّه.
في الواقع المعاصر، تتجلى “فتنة الدجال” بأشكال جديدة أكثر تعقيدًا ونعومة. لم تعد في صورة طغيانٍ سياسي أو غزوٍ عسكري، بل في شكل هيمنة ذهنية وتكنولوجية تُعيد تشكيل الوعي الجمعي بهدوء.
الإعلام مثلًا لم يعد ناقلًا للخبر، بل أصبح مُنتِجًا للحقيقة البديلة. كل ما نراه ونسمعه يُبرمج إدراكنا للعالم وفق خريطة مُعدّة مسبقًا. نحن لا نعيش الواقع كما هو، بل كما يُراد لنا أن نراه. وهنا تبدأ “الخيارات الخبيثة” في التسلل إلى اللاوعي: من يختار، يظن أنه حر، لكنه يتحرك داخل دائرة رسمها له آخرون.
أما الاقتصاد، فقد أصبح نظامًا أخلاقيًا خفيًا يوجّه السلوك الإنساني باسم الكفاءة والربح، حتى صار الإنسان يقيس قيمته بقدر ما يستهلك لا بما يُنتج من معنى. وهكذا يتحول “الاختيار” من كونه فعلًا حرًّا إلى استجابة شرطية لمؤثرات السوق.
وفي ميدان التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، بلغ الخداع ذروته. فالآلة لا تسلبك وعيك بالقوة، بل تجعلك تعتمد عليها حتى تُعيد تعريف نفسك من خلالها. الهوية الرقمية صارت أهم من الهوية الروحية، والعلاقات الافتراضية حلت محل المعنى الإنساني الحقيقي. إنها صورة جديدة للدجال: وعيٌ مقلوب يقدم الراحة بدل الحقيقة، والاتصال بدل الفهم.
أما في السياسة، فالعالم يعيش اليوم ما يشبه “مسرح الإدراك”. الحروب تُدار كعروض إعلامية، والقرارات الكبرى تُتخذ بدوافع نفسية وجماهيرية أكثر منها عقلانية. كل هذا لا يُدار بالعنف المباشر، بل بالهندسة الإدراكية، حيث يتم التحكم في الصورة الذهنية لا في الجسد. إنها فتنة “أن ترى النار جنة والجنة نارًا”.
وفي خضم هذا كله، يضيع الإنسان في التفاصيل اليومية. ينشغل بصراعات صغيرة، وينسى أن ينظر من فوق، إلى المشهد الكوني الذي يحكم كل هذا. من هنا، تصبح العودة إلى التدبر، وإلى فهم القوانين الكلية التي تحكم الوجود، ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية لاستعادة مركز الوعي الإنساني داخل النظام الإلهي الرحب.
القوانين الكلية والمطلقة هي المجال الذي يعيش فيه الإنسان؛ فضاؤه المحكوم بالإرادة الإلهية، حيث كل شيء منضبط بمبدأ السببية والعدل. خيارات الإنسان لا تقع خارج هذا النظام، بل داخله؛ داخل “الأمر الإلهي المطلق” الذي أتاح له أن يختار. فكل لحظة هي مفترق بين شجرتين: شجرة خيارات طيبة تمتد جذورها في النور، وشجرة خيارات خبيثة تتغذى من الوهم والأنانية.
ما فعله العالم الحديث أنه ضيّق أمامنا فضاء الاختيار. جعلنا نعيش في بيئة تحاصر وعينا داخل منظومات خبيثة، من الإعلام إلى الاستهلاك إلى التكنولوجيا، حتى أصبحنا نُعيد إنتاج قيودنا بأنفسنا. ولسنا ضحايا فقط، بل شركاء في هذا الحصار، لأننا اخترنا الراحة بدل الحرية، والجهل الموجّه بدل المعرفة المسؤولة.
لكن الوعي لا يُهزم. فمن أدرك هذه الحقيقة أدرك أن الخلاص يبدأ من إعادة الاتصال بالمطلق، لا برفض العالم، بل بفهمه من جذوره. أن تدرك أنك في امتحانٍ إدراكي، وأن “الدجال” ليس عدوًا خارجيًا، بل اختبارٌ داخلي لصفاء وعيك وقدرتك على رؤية الحقيقة دون أقنعة.
في جوهر الرسالة القرآنية، يتجسد مفهوم الاختيار كأعظم ما مُنح للإنسان من سلطان، وكمصدر لكل تكليفه ومسؤوليته. فالإنسان لم يُخلق ليُساق كما تُساق الكائنات، بل ليختار بين طريقين:
{ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } (سورة البلد 10)
هذا هو القانون الإلهي الذي يفتح أمامه ملايين الخيارات داخل نظام كليّ مطلق لا يختلّ، لكنه يترك له مساحة الإرادة الحرة داخل تلك المنظومة المحكمة.
هنا يتجلّى التوازن الدقيق بين القدر والإرادة، بين “الكتاب المسطور” و”العمل المنشور”. فكل ما نفعله هو من داخل “الأمر الإلهي”، ولكننا نحن من نختار الاتجاه، نحن من نُحدّد هل نغذّي شجرة الخيارات الطيبة أم نغرس جذورنا في الشجرة الخبيثة.
وفي عصر الهيمنة المعلوماتية، أصبح أخطر ما يُسلب من الإنسان ليس رزقه أو حريته المادية، بل قدرته على التمييز. حين يختلط الحق بالباطل، والعلم بالزيف، والمعرفة بالتسويق، يُصبح الوعي ساحة معركة بين النور والظلمة. وحين يستسلم الإنسان لتلك الفوضى، فإنه لا يُهزم بالقهر، بل بالرضا. كما قيل: “لقد حاصرونا في خيارات خبيثة ونحن من مهدنا لهم الطريق”.
لكن في عمق هذا الإدراك يكمن الأمل؛ لأن القدرة على رؤية الخداع هي أول خطوة في تجاوزه. ومن ثمّ، فالتدبر الحقيقي لا يكون في فهم النصوص فقط، بل في قراءة الواقع بوصفه كتابًا مفتوحًا من آيات الله. كل شيء حولك يشهد بوحدة المصدر، وبأن القانون الكليّ الذي يحكم الذرّة هو ذاته الذي يسير به التاريخ والإنسان والمصير.
إن النجاة ليست في الانعزال، بل في الوعي. في أن تُعيد وصل خيوط وعيك بالمطلق، فتعود قراراتك متصلة بالنظام الإلهي لا بالضوضاء البشرية. عندها فقط يتحقق وعد الله:
{ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } (سورة الكهف 29)
تعليقات
إرسال تعليق