الجزء التمهيدي
«قبل أن تُسمّى الأشياء: حين كان المعنى سابقًا على اللفظ»
لم تبدأ القصة بالكلمة،
ولا بالصوت،
ولا بالحرف.
بدأت بالمعنى.
المعنى كان حاضرًا قبل أن تُنطق الأسماء، وقبل أن تتشكل الدلالات، وقبل أن يُدرك الإنسان أنه يدرك. لم يكن المعنى احتمالًا، بل كان يقينًا قائمًا في علم الله المطلق؛ علم لا يتجزأ، ولا يُكتسب، ولا يتدرج، ولا يطرأ عليه جديد. وفي مقابل هذا العلم الأزلي، تقف المعرفة الإنسانية بوصفها فرعًا ماديًا محدودًا، لا ترى من الحقيقة إلا بقدر ما أُذن لها أن ترى.
من هنا تنشأ الإشكالية الكبرى:
إذا كان المعنى سابقًا على اللفظ، فكيف نقرأ اللفظ؟
وهل الكلمات القرآنية مجرد تسميات، أم أنها مفاتيح وجود؟
1. المعنى ليس وليد اللغة
اللغة في أصلها ليست خالقة للمعنى، بل كاشفة له.
وما لم يُدرك هذا الأصل، تحولت قراءة القرآن إلى قراءة صوتية أو بيانية، لا وجودية.
الله تعالى لم يحتج إلى الكلمات ليعلم،
لكن الإنسان لا يستطيع أن يعلم إلا من خلالها.
ومن هنا، فالقرآن لا يُنزَّل ليُنشئ معاني جديدة في علم الله، بل ليُنزّل المعنى الأزلي في صورة لفظية تناسب حدود الإنسان. فاللفظ القرآني ليس اختيارًا لغويًا، بل تنزيلًا دلاليًا محسوبًا، يحمل من خصائص المعنى بقدر ما يسمح به العقل البشري دون أن ينكسر.
2. لماذا لا تتساوى الألفاظ؟
لو كانت الكلمات مجرد إشارات محايدة، لاستوى:
الخلق
والجعل
والتكوين
والتصوير
والبث
لكن القرآن لا يفعل ذلك.
هو يفرّق، ويكرر أحيانًا، ويقدّم ويؤخر، ويجمع ويفصل.
وهذا التفريق ليس بلاغة فحسب، بل سننية.
السنّة الإلهية لا تعمل بالترادف،
بل بالترتيب.
وحين يستخدم القرآن لفظًا دون آخر، فهو لا يغيّر الشكل، بل يغيّر المرحلة الوجودية التي يتحدث عنها.
3. الحرف بوصفه حامل معنى لا وعاء صوت
الحرف في المنظور القرآني ليس وحدة صوتية فقط،
بل أثر دلالي.
لا نقول إن كل حرف يحمل معنى مستقلًا بمعزل عن السياق،
لكننا نقول إن الحرف يشارك في تشكيل البنية الدلالية للفعل.
ولهذا، فإن اختلاف الألفاظ ليس مجرد اختلاف مخارج،
بل اختلاف خصائص:
دخول
اتصال
تثبيت
إخراج
ظهور
امتداد
وهنا تبدأ أهمية التفريق بين:
الخلق
التصوير
البث
ليس بوصفها أفعالًا متجاورة،
بل بوصفها مراحل وجود متتابعة.
4. من الغيب إلى الشهادة: لماذا نحتاج الترتيب؟
الإنسان يميل إلى اختزال الوجود في لحظة واحدة:
وُجد، ثم عاش، ثم مات.
لكن القرآن لا يرى الوجود بهذه البساطة.
هو يرى أن كل مرحلة لها قانونها، ولفظها، وسنتها.
فالخلل المعرفي الأكبر الذي أصاب الوعي المعاصر هو خلط المراحل:
فاعتُبر الخلق هو الجسد،
والتصوير هو الشكل،
والبث هو التناسل.
وهذا الخلط لم يُفسد الفهم اللغوي فقط،
بل أفسد فهم:
الإنسان لنفسه
والمصير
والإعادة
والحساب
5. لماذا تبدأ السلسلة من هنا؟
لأن أي حديث عن:
الخلق
أو التصوير
أو البث
دون تثبيت أن المعنى سابق على اللفظ،
سيؤدي حتمًا إلى قراءة إسقاطية:
إما علمية صِرفة تُفرغ النص من غيبه،
أو وعظية عامة تُفرغ النص من دقته.
هذه السلسلة لا تحاول:
تفسير القرآن تفسيرًا تقليديًا،
ولا فلسفته فلسفة مجردة،
بل تحاول استعادة ترتيب الوعي كما يقدمه القرآن:
من المعنى،
إلى اللفظ،
إلى الفعل،
إلى الوجود.
6. العتبة التي لا بد من عبورها
قبل الدخول في:
الخلق
ثم التصوير
ثم البث
يجب أن نعبر هذه العتبة:
القرآن لا يشرح الواقع كما نراه،
بل يعيد ترتيب رؤيتنا للواقع.
ومن لم يقبل إعادة الترتيب،
سيقرأ الكلمات…
ولن يرى السنن.
في الجزء القادم
«الخلق: إخراج الأصل من العدم لا تكرار الوجود»
سنبدأ من السؤال الذي يبدو بسيطًا، لكنه أخطر مما نظن:
لماذا قال القرآن: خلقكم… ولم يقل أوجدكم؟
تعليقات
إرسال تعليق