القائمة الرئيسية

الصفحات

حقوق الإنسان: رحلة طويلة وشائكة (الجزء الأول)

 

سوف نستعرض في هذا الجزء معنى مقولة الحق ومضمونها في الحضارات القديمة، فالحق مفهومٌ قديمٌ تمتد جذوره إلى الحضارات القديمة، ورغم اختلاف التصور والتطبيق، إلا أن الحضارات القديمة عرفت مبادئ أساسية لحقوق الإنسان، مثل المساواة والعدالة والحق في الحياة.

أولًا: الحق معنىً وتصورًا ودلالة:

  • الحق في اللغة ثبوت الأمر وصدقه ووجوبه.
  • الحق في الفكر الغربي يعنى الموافقة بين الشيء الخارجي وبين الذهن "العقل".
  • ومن الناحية الموضوعية الحق هو المسموح به، سواء بموجب القوانين المكتوبة أو القواعد المتبعة.

ثانيًا: الإنسان وحقوقه في الحضارات القديمة:

وفيما يلي مفهوم الإنسان والحق فيما يلي من حضارات قديمة:

[1] الإنسان والحق في الحضارة المصرية القديمة:

ساد اعتقاد بأن فراعنة مصر كانوا طغاة مستبدين، ولكن هذا الاعتقاد غير صحيح، فالمصري القديم عُرف بالمساواة الطبيعية بين الناس، وكان الملك معرضًا لمسئولية سياسية عن مدى رضا الشعب عنه، ومن أقوال الفلاح الفصيح المصري القديم ما يؤكد وعي الشعب بحقوقه وتمسكه بها، ومنها: "إن الإنصاف قصير، ولكن الضرر يمكث طويلًا".

[2] الإنسان والحق في حضارات فارس وبلاد الرافدين [السومرية والبابلية والآشورية]:

فكانت حقوق الإنسان في الحضارات القديمة في بلاد فارس وبلاد الرافدين متطورة إلى حد ما، حيث كانت المرأة تتمتع ببعض الحقوق، كما كان هناك قوانين تحمي المواطنين من الظلم والاستغلال، وكانت الحضارة الفارسية بقيادة قورش من أكثر الحضارات التي اهتمت بحقوق الإنسان، حيث أقرت أول وثيقة مسجلة بحقوق للإنسان.

في الحضارة السومرية:

ظهر أول كتاب شامل في القانون، ويتضمن أحكامًا تتعلق بالقضاء والشهود والسرقة والنهب وشئون الجيش والزراعة والقروض، والأسرة من زواج وطلاق، وإرث وتبني وتربية.

وكان للمرأة حقوق، منها الاحتفاظ بما يُقدمه أبوها لها، وأن تُقرر من يرثها، ولها من الحقوق على أولادها نفس ما لزوجها.

في الحضارة البابلية:

ظهر المشرِّع "حمورابي" وقوانينه تعالج مختلف شئون الحياة، وتتضمن أحكامًا تتعلق بالقضاء والشهود والسرقة والنهب وشئون الجيش والزراعة والقروض، والأسرة من زواج وطلاق وإرث وتبني وتربية، ويأخذ حمورابي بقانون النفس بالنفس، ولكن كانت صورته عند حمورابي بدائية وشكلية تمامًا، وحدَّت شريعة حمورابي من استبداد الأزواج بزوجاتهم، وكان للمرأة حقوقٌ منها أن تُفارق زوجها وتعود إلى أهلها ومعها كل متاعها.

في الحضارة الفارسية:

طرح زرادشت عقيدته "الزرادشتية"، وفيها العدالة أول علامة في الطريق إلى معرفة الله، وبتأثير من الزرادشتية أقام "قورش" دولته على التسامح، وخَلَّصَ بني إسرائيل من الأسر البابلي، ومنحهم حق الانتقال إلى حيث يريدون، وتعود إليه أول وثيقة مسجلة بحقوق للإنسان نحو 550ق.م، ويعترف بحق الإنسان في الحرية والأمن، وحرية التنقل والإقامة والعقيدة والعمل والملكية، ونصَّ على تحريم العبودية.

[3] حضارات الهند والصين [البوذية والكونفوشيوسية]:

كانت الحضارات القديمة في الهند والصين متشابهة في بعض الجوانب، مثل تمتع الطبقة الحاكمة بامتيازات كثيرة، وانخفاض مكانة المرأة. ومع ذلك، كانت هناك أيضًا بعض الاختلافات، مثل نظام الطبقات في الهند، والنظام الأسري في الصين.

في الحضارة الهندية القديمة:

كان النظام الاجتماعي طبقيًا، على رأسه طبقة البراهمة، التي كانت تتمتع بامتيازات كثيرة، بما في ذلك إعفاءهم من العقوبات الجنائية، وكانت مكانة المرأة منخفضة، حيث كانت تعتبر مِلكًا لزوجها أو أبيها، ولم يكن لها أي حقوق مستقلة.

وظهرت البوذية كرد فعل على النظام الطبقي، حيث دعت إلى المساواة بين جميع البشر، بما في ذلك المرأة.

في الحضارة الصينية القديمة:

كان النظام الاجتماعي في الصين قائمًا على تقاليد الأسرة، حيث كان الأب هو رأس الأسرة وله سلطة مطلقة على أفرادها، وكانت مكانة المرأة حقوقها منخفضة أيضًا، حيث كانت تعتبر أقل منزلة من الرجل، ولم يكن لها الحق في الميراث أو الزواج بدون موافقة والدها.

وظهرت الكونفوشيوسية كرد فعل على النظام الاجتماعي السائد، حيث دعت إلى احترام الأخلاق والقيم التقليدية، بما في ذلك احترام الوالدين.

[4] النـزعة الإنسانية ومقولة الحق في الحضارة اليونانية:

لم تكن حقوق الإنسان في الحضارة اليونانية حقيقية، لأنها كانت مقصورة على طبقة المواطنين الأحرار الذكور البالغين، وحرمت المرأة والأجانب والعبيد من كافة الحقوق السياسية والمدنية.

تيارات الفكر اليونانية:

نظر إليها المفكرون اليونانيون من منظور فلسفي نظري، ولم يترجموها إلى واقع عملي.

السفسطائيون:

اهتم السفسطائيون بالإنسان ومشكلاته، وطرحوا نظريتين عن القانون الطبيعي، الأولى ترى أن الحق للأقوى، والثانية ترى أن كل البشر متساوون.

سقراط وأفلاطون:

أكد سقراط على أهمية القانون والعدالة، ورأى أن الفرد ليس كيانًا مستقلًا، بل جزء من الدولة، ورأى أفلاطون أن الدولة هي جسد عضوي، والفرد هو جزء من هذا الجسد، وحدد طبقات المجتمع حسب المواهب الطبيعية.

أرسطو:

اتفق أرسطو مع سقراط وأفلاطون على أهمية القانون والعدالة، ورأى أن العدالة نوعان: توزيعية وتعويضية، ورأى أن التفرقة بين الأعلى والأدنى موجودة بالطبيعة، وأن الإغريق أحرار سادة، والبعض الآخر رقيق.

المدرستان الرواقية والأبيقورية:

اهتم الرواقيون بالمواطنة العالمية، ورأوا أن كل البشر متساوون أمام القانون، ورأى الأبيقوريون أن هدف القوانين حماية المجتمع من الظلم، ودعا إلى العُزلة والابتعاد عن الحياة العامة.

الخاتمة:

جاء التفكير الاجتماعي الشرقي القديم في مصر وفارس والهند والصين صدى للظروف والتجربة والذوق الشخصي، ولم يأتِ تصوره للإنسان وقيمته وحقوقه عن دراسة منهجية، وكان يُعبِّر عن الفرد أكثر مما يُعبِّر عن الجماعة، ومحوره أهداف نفعية، وممَّا لوحظ عليه:

  1. في مصر ارتبط العدل وحقوق الإنسان بنظام حكم ذات دعائم دينية وأخلاقية لا تُميِّزُ بين الدين والسياسة، لأن الحاكم مصدر جميع السلطات والنظم، وبحسب قوة سلطانه يستقر المجتمع.
  2. في الحضارتين السومرية والبابلية عُرِفَ القانون والتشريع كأساس للعدالة، ولكن اتسمت العقوبات بشيء من الوحشية والافتقار إلى المعقولية والمساواة.
  3. في تقاليد البرهمية بالهند ساد التمييز بين الطبقات، وكانت المرأة تخضع تمامـًا للرجل، وليس لها الحق في أي تصرف قانوني، ولدرء الظلم الاجتماعي دعت البوذيَّة إلى أخوَّة متحابة، وإلى التخلي السلبي عن الحياة، ولم تطرح حلًا إيجابيًا لتخفيف آلام البشر، وكانت دعوة "كونفوشيوس" في الصين أكثر إيجابية لأنه اشترط لصلاح الفرد أن يكون عضوًا نافعًا فعالًا بالمجتمع.
  4. في الحضارة اليونانية ساد التمييز في الحقوق، وظهرت نظريَّة عن "الحق" تُقرر أن الشرائع وقواعد الأخلاق خلقها الناس، ولكن الحق الطبيعي هو سيطرة القوي على الضعيف، والأخلاق والقوانين و"الغيب" "حيل مصطنعة" ابتدعها الضعفاء لكبح جماح الأقوياء، وعلى الأقوياء كشف زيفها وتحطيمها، والعودة إلى الحق؛ وهو منفعة الأقوى؛ وقانون الطبيعة يُعطي لكل كائن الحق في أن يفعل ما يشاء، وللنظرية صيغة أخرى ترى أن الحق يعنى المساواة بين البشر، والطبيعة لم تجعل من أحدٍ عبدًا، والمجتمع يمثِّل عقدًا يضمن حقوق أطرافه، ولكنه لا يضمن تعليم الناس الفضيلة، والفلسفة أداة لمجابهة العرف والملوك الوارثين عروشهم، وأثرت هذه الأفكار في المـُطاِلبة بتحرير المرأة، وفكرة "المواطنة العالمية" كدعوة نظرية، والتيار الآخر نظري مثالي، وبه تأملات واقعية، ويمثله أفلاطون ومدرسته، وفيه ظهر القول "الفضيلة علم والرذيلة جهل"، وأن التربية ونشر العلم السبيل الوحيد لتحقيق قيم الحق والعدل، وكانت جمهورية أفلاطون المثالية صدى لذلك، ومع ذلك انتهى إلى تصورات واقعية تُقرَّ بضرورة القوانين لضمان العدل والحق.

وبصفة عامة كانت الغاية من فكرة الحق والقانون في الحضارات القديمة ضمان قدر ما من العدل الاجتماعي اللازم لاستقرار المجتمع، وسلامة المـُلْك، أي لغاية نفعية محددة، ولم تعرف حقوق الإنسان بوصفه إنسانًا، ولا حقوق الفرد بوصفه فردًا إنسانيًا.

تعليقات