الجزء الثالث: "ما بعد الحرب: ولادة نظام عالمي جديد من رماد النفط والنفوذ"
بينما يتصاعد دخان الحرب في الخليج، وترتفع أسعار الطاقة إلى مستويات غير مسبوقة، لا تشتعل فقط محطات الوقود والموانئ، بل تحترق أيضًا خرائط النفوذ القديمة. فالعالم الذي سيتنفس بعد الحرب لن يكون كما كان قبلها. سيسقط كبار، ويصعد غير متوقعين، وستُولد تحالفات جديدة على أنقاض النظام العالمي الحالي.
أولًا: سقوط النظام أحادي القطب… نهاية التفوق الأمريكي المطلق؟
منذ الحرب الباردة وحتى اليوم، حافظت أمريكا على موقعها كقائد للعالم الحر، وشرطي الاقتصاد العالمي. لكن استخدام سلاح الطاقة كأداة لتجويع الخصوم، خاصة الصين وأوروبا، سيدفع حتى الحلفاء إلى مراجعة علاقتهم مع واشنطن.
فأوروبا، التي ستكتشف أنها كانت دائمًا في الصفوف الخلفية لمصالح أمريكا، قد تبدأ بالتململ من التبعية. وقد ترى فرنسا وألمانيا أن أمن الطاقة الأوروبي يجب أن يكون بعيدًا عن المزاج الأمريكي. وهنا قد نرى أولى بذور استقلال سياسي حقيقي للاتحاد الأوروبي، وربما بداية تبلور قوة ثالثة في النظام العالمي.
ثانيًا: الصين وروسيا… نحو محور جديد
لن تقف بكين وموسكو مكتوفي الأيدي. فالحرب النفطية، التي ستشعل الأسواق، ستدفع الدولتين إلى تسريع بناء محور اقتصادي سياسي مشترك، يضم دول البريكس، ويستهدف بشكل واضح كسر هيمنة الدولار والمؤسسات الغربية.
هذا المحور الجديد، الذي قد يُطلق عليه مجازًا "تحالف الشرق"، لن يكون مجرد تحالف مصالح، بل كتلة استراتيجية تحاول التحكم في مصادر المواد الخام والتقنيات الصناعية والطرق التجارية، خصوصًا عبر طريق الحرير ومشروع "الحزام والطريق".
وربما تبدأ الصين، عبر البنك الآسيوي وبنك البريكس، تمويل الدول المتضررة من الحرب بأسعار فائدة أقل من الغرب، في محاولة لكسب ولاءات جديدة من دول إفريقيا وآسيا وحتى أمريكا اللاتينية.
ثالثًا: العالم العربي… التوازن فوق حافة السكين
الدول العربية، خاصة الخليجية، ستكون ممزقة بين العوائد الاقتصادية من أسعار النفط المرتفعة، وبين المخاطر الأمنية والسياسية للانخراط في محور واشنطن. فكل دعم ظاهر أو خفي للولايات المتحدة سيجعلها هدفًا مباشرًا لأي رد فعل إيراني أو صيني.
في المقابل، الدول العربية غير النفطية، مثل مصر والمغرب والأردن، ستبحث عن أي مخرج من الفاتورة الاقتصادية الثقيلة، وربما تبدأ تقاربًا غير مسبوق مع الصين أو روسيا، طلبًا للتمويل أو الطاقة أو الدعم السياسي.
هكذا سنشهد بداية انقسام عربي جديد، ليس على أسس طائفية أو قومية كما في الماضي، بل على أساس تموضع استراتيجي في النظام العالمي القادم.
رابعًا: ولادة تكتلات جديدة
-
تكتل الطاقة النظيف: الدول التي ستتضرر بشدة من أزمة النفط ستسرّع تحالفاتها لتطوير الطاقة الشمسية والهيدروجينية. وقد تظهر جبهة جديدة تضم دولًا من شمال أوروبا، كندا، أستراليا، وبعض دول الخليج كمصدّرين للطاقة النظيفة.
-
تكتل الغذاء والمياه: مع تعطل الإمدادات العالمية وارتفاع أسعار النقل، قد تتشكل تحالفات إقليمية لضمان الأمن الغذائي والمائي، خصوصًا في إفريقيا وجنوب آسيا، وهي أزمة متوقعة بعد الحرب.
-
التحالفات غير المنحازة 2.0: كما ظهر "حركة عدم الانحياز" أثناء الحرب الباردة، قد تظهر نسخة حديثة تضم دولًا مثل الهند، تركيا، إندونيسيا، البرازيل، تحاول تحقيق توازن بين الشرق والغرب دون الانخراط المباشر في الصراع العالمي.
خاتمة: الفوضى بداية كل شيء جديد
هذه الحرب القادمة، التي تبدأ بصاروخ فوق منشأة أو إغلاق مضيق، لن تكون مجرد فصل جديد من الصراع بين إيران وإسرائيل أو بين الشرق والغرب. إنها زلزال يعيد تشكيل الكوكب، يُنهي مرحلة الهيمنة الأمريكية الأحادية، ويعلن عن ولادة نظام عالمي متعدد الأقطاب، لكنه غير مستقر… وربما أكثر خطرًا.
في هذا النظام، لا أحد في مأمن، ولا شيء محسوم. ومن ينجو من الفوضى، سيكون هو اللاعب القادم.
تعليقات
إرسال تعليق