في زاوية خفية من الوعي الغربي، يختلط الدين بالسياسة كما يختلط الحلم بالواقع. منذ صعود دونالد ترامب إلى المشهد الأميركي، ظهر تيار واسع من الإنجيليين يرى فيه أكثر من مجرد رئيس؛ يرونه “أداة إلهية” أو “رجل العهد الأخير” الذي سيُمهّد الطريق لعودة المسيح.
هذه الفكرة التي كانت تُهمَس في دوائر لاهوتية مغلقة تحوّلت مع الوقت إلى خطاب عام، وأصبحت جزءًا من محركات السلوك الانتخابي والسياسي داخل الولايات المتحدة.
الإنجيليون الذين يقرؤون العالم من منظور نبوئي قديم، يعتقدون أن التاريخ يسير نحو لحظة فاصلة هي ظهور المسيح المخلّص، وأن لإسرائيل دورًا مركزيًا في تلك اللحظة. ومن هنا رأوا في ترامب «الرجل المختار» الذي نفّذ نبوءاتهم السياسية حين نقل السفارة الأميركية إلى القدس واعترف بها عاصمة لإسرائيل.
هذا القرار البسيط في نظر السياسيين، اعتُبر في عيونهم علامة سماوية على اقتراب زمن الخلاص.
لكن المدهش أن هذه الرؤية اللاهوتية لم تظل حبيسة الكنائس الأميركية، بل عبرت الشاشات والإنترنت لتصل إلى العالم كله. فقد امتلأت وسائل التواصل العربية بنقاشات حول نبوءات المجيء الثاني للمسيح وارتباطها بشخصيات سياسية معاصرة، وعلى رأسها ترامب. وفي مصر، لا يخلو المشهد من أفراد أو مجموعات صغيرة تأثرت بهذه الموجة الفكرية، وإن بشكل غير منظم. بعضهم يتحدث عن “نهاية وشيكة”، وآخرون يربطون بين الأحداث الدولية وصدامات الخير والشر كما تروّجها الدعاية الإنجيلية الغربية.
وراء هذه الظاهرة بعدٌ نفسي وفكري أعمق. الإنسان حين يواجه الفوضى والتهديدات الوجودية، يبحث عن قصة كبرى تفسّر له كل شيء، تريحه من عبء التحليل والشك. فالإيمان بقدوم المخلّص في لحظة سياسية معينة يعطيه إحساسًا باليقين في عالمٍ مضطرب. لكن الخطورة تبدأ عندما يتحول هذا الإيمان إلى محرك سياسي، يوظف الدين لخدمة مشروع أرضي، فيختلط المطلق بالنسبي، وتصبح القرارات السياسية شبيهة بالطقوس المقدسة التي لا تُناقش.
إن تسييس المعتقد الأخروي ليس جديدًا. فقد استخدمته الإمبراطوريات منذ قرون لتبرير حروبها أو لاستقطاب شعوبها حول “قدر مقدّس”. غير أن الحالة المعاصرة معقدة؛ فهي تتم في ظل إعلام رقمي عابر للحدود، يجعل من أي خطاب ديني مثير مادة تنتشر بسرعة الضوء، وتُعيد تشكيل وعي الملايين في الشرق والغرب معًا.
وربما يكمن سرّ جاذبية هذه الفكرة في قدرتها على تبسيط العالم؛ إذ تختزل السياسة في معركة بين “الخير والشر”، وتحوّل الانتخابات أو الصراعات الجيوسياسية إلى فصول من ملحمة دينية كبرى. وهكذا يفقد الناس حسّ النسبية والتعقيد، ويندفعون بحماس لاهوتي في قرارات سياسية قد تحدد مصير أمم بأكملها.
لكن الحقيقة الباردة التي يغفلها هؤلاء أن التاريخ لا ينتظر مخلّصًا فرديًا، بل ينتظر وعيًا جماعيًا ناضجًا. فالمسيح في الرؤية القرآنية ليس رمزًا للسلطة أو الحرب، بل للعدل والرحمة:
﴿وَيَضَعُ الْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾.
حين نقرأ الأحداث من هذا المنظور، ندرك أن انتظار المخلّص لا يكون في شخصٍ ما، بل في تحوّل الوعي الإنساني نحو الحق والعدل. أما تحويل السياسة إلى مسرح نبوءات، فليس سوى هروب جماعي من مسؤولية الإنسان عن صنع مصيره.
العالم اليوم يعيش تحت تأثير هذه العقائد السياسية المتشابكة، من واشنطن إلى القاهرة. غير أن الوعي الناضج وحده هو القادر على التمييز بين الإيمان الذي يهدي، والإيمان الذي يُستَغل. فالمخلّص الحقيقي ليس من يُنتخب في قصرٍ أبيض، بل من يُوقظ فينا ضميرًا يرى المشهد العام كما هو: شبكة من الأسباب والاختيارات، لا مسرحًا لنبوءاتٍ تُدار خلف الستار.
تعليقات
إرسال تعليق