تقوم بنية الوجود على قانونٍ عميق يحكم كل حركة وسكون، ويمنح الكون اتزانه واستمراريته: قانون التوازن بين الأضداد. فكل شيء في الحياة يحمل داخله نقيضه، ولا يكتمل وجوده إلا بوجود ما يخالفه. هذه العلاقة بين الضدين ليست صراعًا كما يتوهم البعض، بل هي شكلٌ من أشكال التكامل الذي يجعل النظام الكوني متناسقًا ودائم العطاء.
من الناحية العلمية، لا توجد طاقة أو مادة إلا وفيها قطبان متعاكسان. فالكهرباء تقوم على التفاعل بين الموجب والسالب، ومن اتحادهما تتولّد الطاقة التي تحرّك العالم. والذرّة التي تُبنى منها كل الكائنات، تتكوّن من بروتونات موجبة وإلكترونات سالبة ونيوترونات متعادلة، ولو اختلّ توازن هذه المكوّنات لانفجرت المادة أو تلاشت. حتى الشمس والأرض تخضعان لهذا القانون؛ فحرارة الشمس لو زادت قليلًا لأحرقت الحياة، ولو ابتعدت لانطفأت الأرض، ولكن بقاءهما على مسافة دقيقة يعبّر عن دقّة هذا التوازن الذي يضمن استمرار الوجود.
والقرآن الكريم أشار إلى هذا المبدأ في مواضع عديدة، منها قوله تعالى:
{ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (سورة الذاريات 49)وهي آية جامعة تعبّر عن القاعدة الكلية للحياة: أن كل موجود يتكوّن من زوجين متقابلين متكاملين. كما ورد في قوله تعالى:
{ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى } (سورة النجم 45 - 46)
في إشارة إلى أن التكامل بين الضدين ليس فقط في المادة، بل في أصل الخلق الإنساني ذاته، وأن استمرار الحياة مرهون بهذا الازدواج الطبيعي.
في المجتمع الإنساني، نجد أن التفاوت بين الغنى والفقر، والقوة والضعف، والعلم والجهل، ليس عيبًا في النظام الإلهي، بل جزء من توازن الحياة. قال تعالى:
{ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } (سورة الزخرف 32)
فالفروق بين البشر ليست للتفاضل الجائر، بل لضمان حركة المجتمع وتكامله. فالغني يحتاج إلى عمل الفقير، والفقير ينتفع من مال الغني، وبذلك تستمر دورة العطاء والتعاون.
حتى في النفس الإنسانية، يسكن الإنسان بين قوتين متضادتين: العقل والرغبة، الأمل والخوف، الرحمة والعدل. وعندما يختل هذا التوازن، تظهر الاضطرابات النفسية والسلوكية. قال تعالى:
{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } (سورة الشمس 7 -8)
فالإنسان خُلق مزوّدًا بإمكانات الخير والشر معًا، ومن اتزان هاتين القوتين تنشأ الاستقامة.
قانون الحياة إذًا ليس مجرد فكرة فلسفية، بل هو نظام كوني شامل يربط المادة بالمجتمع بالروح. فحين يُخلّ أحد الأضداد بتوازنه مع الآخر، تتعطل حركة الوجود. وحين يُفهم هذا القانون ويُعمل به، يعيش الإنسان في انسجام مع الكون، ومع نفسه، ومع الآخرين.
إن استمرار الحياة مشروط بأن يظل الضدان في حالة تفاعل متكامل لا تصادم متنافر. فالموت يكمّل الحياة، والليل يحفظ ضياء النهار، والشدّة تُنضج معنى الرحمة. ومن هذا التفاعل يولد الجمال والتجدد. فالتوازن بين الأضداد هو المعنى الأعمق للعدالة الإلهية التي تحفظ الكون من الفوضى.
هل ترغب أن أُضيف في نهاية المقال فقرة ختامية تلخّص الحكمة العملية التي يمكن للإنسان أن يستفيدها من هذا القانون في حياته اليومية؟
خاتمة: الحكمة العملية من قانون التوازن
حين يدرك الإنسان أن الحياة قائمة على التوازن بين الأضداد، تتغيّر نظرته إلى الأحداث والأشخاص والظروف. فلا يجزع عند الشدائد، لأنها الوجه الآخر للمنح، ولا يغترّ بالرخاء لأنه قد يحمل في طيّاته ابتلاءً خفيًا. إن وعي هذا القانون يعلّم الإنسان فنّ الاعتدال؛ فيفهم أن الخير لا يُعرف إلا بوجود الشر، وأن النور لا يُقدّر إلا بعد الظلمة، وأن العدل لا يتحقق إلا بوجود القدرة على الظلم مع كبحها بالعقل والإيمان.
في الحياة العملية، هذا يعني أن السعادة لا تُطلب بإلغاء الألم، بل بإدراك معناه، وأن النجاح لا يُبنى بإقصاء الفشل، بل بالتعلّم منه. كما أن العلاقات الإنسانية تزدهر حين يُدرك الطرفان أن اختلافهما هو مصدر تكاملهما، لا سبب صراعهما.
من يتوازن مع نفسه ومع الآخرين يعيش في انسجام مع سنّة الكون التي أرادها الله. وهذه السنّة هي التي تحفظ الوجود في مسار مستقر. قال تعالى:
{ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } (سورة المؤمنون 18)
إشارة إلى أن كل شيء في الحياة مقدّر بميزان دقيق، ولو اختلّ هذا التقدير لفسدت الأرض.
وهكذا، ففهم قانون التوازن بين الأضداد ليس نظرية فكرية فحسب، بل منهج حياة يربّي في الإنسان الحكمة، والاتزان، والقدرة على رؤية الجمال في التنوع، والقوة في الاختلاف، والمعنى في كل تضادّ يبدو ظاهريًا متناقضًا، لكنه في حقيقته صورة من صور التكامل الإلهي الذي به تستمر الحياة.
0 تعليقات