منذ أن بدأ الإنسان ينظم حياته في جماعات، وُلد في داخله احتياجان متلازمان: حاجةٌ إلى النظام الذي يحميه من الفوضى، وحاجةٌ إلى المعنى الذي يبرر وجوده. الأول أنشأ السياسة، والثاني أنشأ الدين. ومن هنا جاء الارتباط التاريخي بين رجل الدين ورجل السياسة، كوجهين لمهمة واحدة هي ضبط حركة الإنسان في العالم، غير أن أدوات كلٍّ منهما تختلف: فالدين يضبط الضمير، والسياسة تضبط السلوك.
عبر التاريخ، لم يكن الانفصال بينهما واضحًا في البدايات. ففي الحضارات القديمة، كان الحاكم إلهًا أو ظلًّا للإله، يجمع بين السلطتين الدينية والدنيوية. في مصر القديمة، كان الفرعون "ابن رع" ومصدر التشريع والعبادة معًا. وفي أوروبا القرون الوسطى، كانت الكنيسة تبارك الملوك وتمنحهم "الحق الإلهي في الحكم". وفي العالم الإسلامي، لم يعرف المسلمون كهنوتًا دينيًا على النمط الكنسي، لكنهم عرفوا تفاعلًا عميقًا بين السلطتين: فـ"الخليفة" هو الإمام الذي يقيم الدين ويحفظ الدنيا، كما قال الماوردي في الأحكام السلطانية.
إلا أن هذا التداخل بين الدين والسياسة كان دائمًا يحمل توترًا خفيًا. رجل الدين يستمد سلطته من الوحي والعقيدة، ورجل السياسة يستمدها من الواقع والمصلحة. وحين يحاول أحدهما أن يحتكر المجال كله، يختل التوازن. فحين هيمنت الكنيسة على السياسة في أوروبا، تحولت إلى سلطة قمعية، فكانت الثورة عليها بداية عصر النهضة. وحين استبدت السياسة بالدين في مراحل لاحقة، جردت القيم من بعدها الأخلاقي، فظهر الطغيان المادي والانحراف عن المقاصد الإنسانية.
الحكمة إذًا ليست في فصلٍ كامل بين الدين والسياسة، ولا في دمجهما اندماجًا مطلقًا، بل في تحقيق توازن وظيفي بينهما. الدين يمدّ السياسة بالبوصلة الأخلاقية التي تمنعها من الانحراف نحو الاستبداد، والسياسة تمنح الدين أدوات التنظيم الواقعي التي تحميه من الجمود والانغلاق. يقول الله تعالى:
﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [الحج: 41].
التمكين السياسي هنا مشروط بالعمل الأخلاقي والديني، فليس الحكم غاية، بل وسيلة لتحقيق العدل والصلاح.
وحين يحاول رجل الدين أن يجلس على كرسي رجل السياسة، كما قال النص، ينشأ الخطر؛ لأن مجال السياسة بطبيعته يقوم على المساومة والمصلحة والتقدير النسبي، بينما مجال الدين يقوم على الإطلاق والثبات. وعندما يدخل المطلق في ميدان النسبي، يتحول الاختلاف إلى صدام، ويُستبدل الحوار بالتكفير. بالمقابل، حين يحتكر رجل السياسة سلطة الدين، يوظفه لتبرير سلطته، فيفقد الدين روحه وتتحول السياسة إلى وثن جديد.
التاريخ الإنساني كله يمكن قراءته من هذا المنظور: صراع وتفاعل دائم بين من يُدير العالم المادي ومن يُوجه المعنى الروحي. في أزمنة التوازن، يولد الازدهار، وفي أزمنة الغلبة لأحد الطرفين، يولد الانحراف.
إن رجل الدين ورجل السياسة، في جوهرهما، توأمان ملتصقان كما قيل. لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر تمامًا، لكن لا ينبغي لأحدهما أن يبتلع الآخر. فالدين بلا سياسة يظل مثالية معلّقة في السماء، والسياسة بلا دين تتحول إلى غابة يحكمها الأقوى. وبينهما طريق وسط، هو طريق الحكمة التي قال عنها القرآن:
﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: 269].
فالحكمة هي فن الجمع بين القيم والواقع، بين المطلق والنسبي، بين الروح والمادة. وهذا هو ما تحتاجه كل أمة لتستقيم: أن يتكامل رجل الدين ورجل السياسة في خدمة الإنسان، لا أن يتنازعا على منبر أو عرش.
.jpeg)
تعليقات
إرسال تعليق