شجرة الخيارات: بين الأمر الإلهي المطلق وحصار الواقع الموجَّه


في زمنٍ تتبدّل فيه الحقائق وتتشابه الوجوه وتضيع البصائر بين ضجيج الصورة وسراب المعلومة، يغدو الإنسان رهين لعبة عقلٍ كبرى تُدار من داخله لا من خارجه. الدجال لم يعد حدثاً منتظَراً، بل حالةً قائمة تسكن وعينا حين نُؤله عقولنا ونُقصي المعنى عن الوجود. إن معركتنا الحقيقية ليست مع قوى الخارج، بل مع أوهام الداخل؛ مع تلك الأصوات التي تُقنعنا بأننا أحرار ونحن مكبّلون بسلاسل الفكر الموجّه.

إن النجاة من فتنة العصر لا تكون في الهروب من العالم، بل في إعادة ترتيب العقل على ميزان الوحي، حيث يتحد العلم بالإيمان، والفكر بالبصيرة، فيرتفع الإنسان من مدار الصورة إلى مقام الشهادة؛ مقام من رأى الحقيقة بنور الله لا بظن العقل.
فحين يزول الوهم، يُولد الوعي، وحين يُطفأ نور الدجال، يُشرق نور الإنسان.

العقل هو المسرح الذي تُعرض عليه كل صور الوجود، لكنه أيضاً الساحة التي تُدار فيها أكبر لعبة في التاريخ: لعبة الخداع. فالعقل الإنساني قادر على أن يخلق وهماً متقن الصنع، حتى ليظنه صاحبه حقيقة مطلقة. هنا تبدأ قصة الدجال — لا كشخصٍ أسطوري سيظهر في نهاية الزمان فقط، بل كرمزٍ أزليٍّ للوعي المنفصل عن الحقيقة الإلهية، وللإنسان حين يؤله ذاته ويعبد صور أفكاره.


أولاً: الدجال بين الميتافيزيقا والسياسة

في التراث الديني، الدجال فتنة كبرى يختلط فيها الحق بالباطل، ويُمنح فيها الباطل قدرة الإقناع والمنطق. وفي عالمنا المعاصر، تتجسد هذه الفتنة في أنظمة السيطرة على الوعي: الإعلام، التقنية، رأس المال، والسياسة.
لم تعد الأكاذيب تُفرض بالقوة، بل بالإقناع؛ ولم تعد تُنشر بالقهر، بل بالإغراء. وهكذا صار الإنسان جزءًا من آلة ضخمة تُعيد تشكيل وعيه ليقبل الزيف وكأنه حق.

“إنها أكبر خدعة في التاريخ، لأنك تعتقد أنك حر بينما أنت مجرد رقم في منظومة وعي مُبرمج.”

من هنا نفهم أن الدجال ليس بالضرورة شخصاً يحمل معجزات خارقة، بل نظام تفكيرٍ عالمي يَعِد الإنسان بالخلاص عبر المادّة، ويُخضعه بالمعرفة الزائفة، ويُنسيه أن الله هو من يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض.


ثانياً: البعد الفلسفي — الدجال كوعي زائف

الفكر الفلسفي الحديث كشف هذه الآلية بوضوح. رأى “هربرت ماركوز” أن المجتمعات الحديثة تحوّل الإنسان إلى كائن استهلاكي يُساق خلف حاجاتٍ مُفتعلة، بينما رأى “جان بودريار” أن الواقع استُبدل بالمحاكاة، وأن الحقيقة أصبحت صورة بلا أصل.
هذا هو “عقل الدجال” — عقلٌ يُبدع في بناء أوهامه حتى يفقد القدرة على التمييز بين الحق والباطل. الإنسان هنا لا يُخدع من الخارج، بل من داخله؛ عقله نفسه يصبح أداة التضليل.

قال تعالى:

{ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ } (سورة ص 26)
فالهَوَى ليس مجرد شهوة، بل رؤية مشوَّهة للواقع، تضع الذات في موضع الإله.


ثالثاً: طريق التحرر من الوعي الدجالي

التحرر من الدجال لا يعني الهروب من العالم، بل استعادة البصيرة التي ترى وراء الصورة، وتكشف البنية الإلهية التي تحكم الوجود. وهذه رحلة من أربعة مستويات مترابطة:

1. التفكر (العقل المتأمل)

إعادة النظر في ما نعدّه بديهياً. السؤال الدائم: من يُشكّل وعيي؟ من يحدد لي ما هو الصواب؟ التفكر هنا كسر لدائرة البرمجة وإعادة توجيه البصر نحو الجوهر.

2. التدبر (الربط بين الظواهر والنظام الإلهي)

إدراك أن الكون كتاب مفتوح، وأن وراء الأحداث نظاماً دقيقاً يقوده تدبيرٌ واحد. حين نعي هذا الترابط ندرك أن الفوضى الظاهرة ما هي إلا وجه خفي للانسجام الإلهي.

3. الزهد الواعي (تحرير القلب من عبودية الصورة)

ليس رفضاً للعالم بل تحرراً من التعلق به. فالإنسان لا يُستعبد بما يملك، بل بما يملكه في قلبه. الزهد الواعي هو الاستقلال عن سلطة الرغبة.

4. الصدق الوجودي (التوحيد العملي)

أن يتطابق الفكر مع السلوك، والعقيدة مع الفعل. من رأى الله فاعلاً في كل شيء لا يخضع لقوة بشرية ولا لإغراء مادي. هذا هو نقيض الوعي الدجالي: أن تعيش بحضور الله في كل لحظة.


رابعاً: العالم اليوم — ميدان الدجال

ما نعيشه من هيمنة تقنية، وتضخم إعلامي، وصراع سياسي، ليس إلا مظهراً من مظاهر الدجال.
لقد أصبح الإنسان محاطاً بشبكة من الرموز والصور والمعلومات التي تُشبع عقله وتُفرغ قلبه.
العقل اليوم متخم بالمحتوى لكنه جائع للمعنى، والنجاة لا تكون بامتلاك مزيد من المعرفة، بل بـ تنقية الوعي من شوائبها.

قال تعالى:

{ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ } (سورة الرعد 17)

وهكذا يميز الله الوعي الحق من الزيف كما يميز الماء الصافي من الزبد العابر.


خامساً: الدجال والإنسان الممسوخ بالآلة

في الفكر الغربي الحديث، خصوصاً لدى مفكرين مثل “نيتشه” و“هايدغر” و“إريك فروم”، يظهر خوفٌ مشابهٌ من تحوّل الإنسان إلى آلة بلا روح.
نيتشه تحدث عن “الإنسان الأخير” الذي فقد إرادة المعنى، وهايدغر حذر من أن التقنية ستجعل الإنسان يرى الوجود كمخزونٍ يُستهلك، لا كآيةٍ تُتأمل.
هذا الإنسان الآلي هو الوجه الغربي للدجال: الوعي الذي يستبدل الخالق بالمصنوع، والروح بالمادة.
بينما يحذر الإسلام من الدجال الذي “يُحيي ويميت” في أعين الناس ليختبر وعيهم، تحذر الفلسفة الغربية من الإنسان الذي صار يظن أنه قادر على خلق الحياة ذاتها بالآلة. كلا النموذجين يجتمعان في نقطة واحدة: الغرور المعرفي وفقدان التواضع أمام سر الوجود.


خاتمة: من الخداع إلى الشهادة

النجاة من الدجال ليست بانتظار النهاية، بل ببدء ثورة داخلية على مستوى الوعي.
أن يرى الإنسان الله في تدبير كل شيء، فيتحرر من سطوة الصورة والسلطة والوهم.
من يعيش بالحق لا يُخدع بالوهم، ومن علم أن العقل عبدٌ لا إله، أدرك أن الفتنة ليست في رؤية الدجال، بل في الإعجاب بعقله.

الدجال هو اختبار الوعي الإنساني، والنجاة ليست في اعتزاله، بل في تجاوزه بنور الفهم والإيمان.

إرسال تعليق

0 تعليقات