القائمة الرئيسية

الصفحات

 


العدل ليس ميزان محاكم، ولا حكماً يصدره قاضٍ يجلس فوق منصة عالية؛ العدل أعمق من ذلك بكثير. هو اللحظة التي يدرك فيها الإنسان القوانين الخفية التي تنظم عالم الخلق، تلك السنن التي تُبقي الحياة متماسكة، وتمنح كل شيء مكانه اللائق ودوره الأصيل في حركة الوجود.

فالعدل ليس فعلاً طارئاً، بل هو انسجام مع إيقاع الكون. حين تمتد يدك بصدقة، فأنت لا تقدّم مالاً فحسب، بل تعيد ترتيب خيطٍ من خيوط الحياة اختلّ لحظة ما. وحين تكفل يتيماً، فأنت لا تملأ فراغاً في قلب طفل فقط، بل تردّ للحياة حقَّها في الرحمة، وتمنع شرخاً من أن يتحول إلى هاوية. كل فعل يرفع إنساناً، ويقيم معنى، ويعالج نقصاً، هو عدلٌ يُعاد إلى الكون كما يُعاد الماء إلى مجراه.

فالخلق قائم على شبكة دقيقة من العلاقات؛ كل عطية تُصلح موضعاً، وكل كلمة طيبة تُرمم زاوية، وكل خطوة صادقة تضيف سكينةً إلى الفضاء الذي نتشاركه. وحين يفهم الإنسان هذه الحقيقة، يتوقف عن تصور العدل كواجب ثقيل، ويراه كفعل محبةٍ ممتدّة، كإسهام صغير في نسيج الحياة الواسع.

العدل ليس شعاراً، بل وعيٌ بالقانون الذي يحكم حركة الأشياء: أن ما تعطيه يعود، وما تصلحه ينعكس، وما تقدمه للحياة يعود ليقف معك حين تحتاجه. إن العدل، في جوهره، هو أن تصبح جزءاً من هذا الانسجام الكوني، أن تدرك أن الحياة ليست مسرحاً نتزاحم فيه، بل لوحةٌ تُكملها أيدينا حين نختار أن نمنح بدلاً من أن نأخذ، وأن نُصلح بدلاً من أن نتجاهل.

هكذا يصبح العدل فعلاً يومياً هادئاً، لا ينتظر تصفيقاً ولا شهوداً؛ يكفي أنه يُعيد للحياة توازنها، ويُعيد للإنسان إنسانيته.

تعليقات