القائمة الرئيسية

الصفحات

 


في مسيرة الإنسان لحظات نادرة يعيد فيها النظر في كل ما اعتاد اعتباره يقيناً. لحظات تتداعى عندها أفكارٌ رسخت طويلاً، ومعتقداتٌ تحولت ـ عبر الزمن ـ إلى ثوابت لا تُمس. غير أن هذه اللحظات، رغم أهميتها، قد تمر دون أن نلتفت إلى ما وصلنا إليه وكيف تشكّل داخلنا هذا البناء الذهني الذي ندافع عنه اليوم بثقة قد تفوق حجمه الحقيقي.

فالعقل يصنع أوهامه بصمت؛ يبدأها كتجربة عابرة، ثم يرفعها إلى مرتبة الحقيقة، ويُحيلها مع الوقت إلى قوالب صلبة يصعب كسرها. ومع تراكم تلك القوالب، يحاصر الإنسان نفسه بما يظنه يقيناً. إلا أن الأخطر من ذلك أن يؤمن الإنسان بفكرة ثم يتحول دفاعه عنها إلى معركة يخوضها ضد الجميع، لا طلباً للمعرفة، بل خوفاً من سقوط الصورة التي صنعها لنفسه. عندها لا يقاتل المختلفين عنه فقط، بل حتى من يشاركه الأصل ويخالفه في تفصيل صغير.

وهذا المشهد يتكرر في ميادين العلم كما في ميادين الإيمان. فكم من متخصص في الطب أو الكيمياء أو الفيزياء أو أي فرع من فروع المعرفة يقف موقف المحارب، وكأن مجاله وحده هو الطريق الأمثل، لا باب من أبواب العلم. والدين، رغم قدسيته، لم يسلم من هذا المأزق؛ فكثيرون جعلوا من فهمهم للدين ديناً آخر، لا يقبل المراجعة ولا الحوار، وكأن الثابت ليس الوحي بل رؤيتهم هم له.

ومع مرور الزمن يصبح الإنسان أسير فهمٍ وُلد في زمن محدد ولا يتعداه، حتى إذا اصطدم بالواقع انهارت ثوابته أمام موجات المعرفة. ومع ذلك يتمسك بما اعتاده خشية الاعتراف بأن ما بذل حياته في الدفاع عنه لم يكن سوى رؤية محدودة لم تتجاوز السطح.

فالوجود أوسع بكثير من حدود وعينا، والعلم مهما اتسعت آفاقه لا يزال مجرد قشرة رقيقة فوق محيط هائل من المجهول. وحتى أعلم العلماء حين يتجرد يدرك كم هي ضئيلة المساحة التي بلغها الإنسان من أسرار الكون. فكيف بمن لا يصنعون العلم بل يستهلكونه فقط؟

المشكلة ليست في الفكرة ولا في المعتقد، بل في الإنسان حين يحوّل رأيه إلى حصن، ويحوّل حصنه إلى سيف. بينما كان الصراع الحقيقي يجب أن يكون داخلياً: أن يجاهد الإنسان نفسه، ويسعى إلى معرفة لم يبلغها بعد، ويظل واعياً بأن الحقيقة أكبر من مداركه مهما اتسعت.

وحين يتحقق هذا الوعي، يصبح الانتقال بين التشدد والتفريط أمراً متجاوزاً، ويغدو الإنسان أقرب إلى التواضع المعرفي، وأبعد عن أسر الوهم الذي صنعه بيديه.

انت الان في اول مقال

تعليقات