السعي لرضا الناس طريقٌ لا ينتهي، لكنه لا يقود إلى مكان. هو ركضٌ خلف ظلال تتبدل كلما اقتربت منها، ومطاردةٌ لأصوات لا تستقر على حكم، ولا تعرف لنفسها حقيقة. فمن جعل رضى الآخرين بوصلته، خسر اتجاهه، ومن جعل أعينهم مرآته، لم يرَ وجهه يوماً.
فالناس لا يجتمعون على رأي، ولا تتشابه مقاييسهم، وكل واحد منهم يحمِل داخله قاضياً صغيراً لا يهدأ. ترضي واحداً فيغضب آخر، وتلين هنا فيثور عليك هناك. وكلما بذلت جهداً لتصبح الصورة التي تريدها الجماعة، وجدتَ أنك ابتعدت أكثر عن صورتك التي خُلقت لتكونها.
ويتحول هذا السعي مع الوقت إلى قتلٍ بطيء للنفس؛ يبدأ من إسكات صوتك الداخلي، لينتهي بإخفاء كل ما يشبهك. تنحني لتُرضي، وتُجمّل لتنال قبولاً، وتلغي نزعاتك العميقة كي لا تُصنّف، وتقطع أطرافاً من ذاتك كي لا تُلام. وحين تصحو فجأة، تجد أن أكثر ما فقدته كان أنت نفسك.
الضمير الذي كان ينبض بداخلك يصبح همساً خافتاً، يختنق تحت ثقل أعين الآخرين. وتنشغل بإرضاء الخارج حتى تنسى أن الداخل هو الموطن الأول للطمأنينة. فالمعيار الحقيقي ليس رضا الناس، بل اتساقك مع حقيقتك. وما لا يصنع انسجاماً داخلياً لن يصنع سلاماً خارجياً، مهما صفق لك المصفقون أو لامك اللائمون.
إن الخروج من دائرة إرضاء الناس ليس تمرداً، بل تحرر. هو لحظة تُعيد فيها النفس حقها في الوجود كما هي، دون رتوش أو أقنعة. لحظة تدرك فيها أن رضا الآخرين متغير، ورضاك عن ذاتك هو الثابت الوحيد الذي يبقى معك حتى النهاية.
ومن يسير في الحياة محمَّلاً بثقل نظرات الآخرين، لن يبلغ شيئاً سوى الإنهاك. أما من سار وهو يعرف صوته، ويحترم حدوده، ويسمع لضميره، فقد نجا من الدوران في حلقة لا تثمر إلا الخزي.
هكذا تصبح الحياة أصفى: لا تُمنح لمن يطلب رضا الناس، بل لمن يطلب حقيقته. ومن وجد نفسه، لم ينتظر من الآخرين أن يجدوه.
تعليقات
إرسال تعليق