الإنسان في جوهره كائن باحث عن المعنى، لكنه كثيرًا ما يضلّ طريقه في متاهة التفاصيل. ينشغل بما هو قريب وطارئ، وينسى ما هو بعيد وجوهري. يتجادل حول الجزئيات، ويغفل الصورة الكلية التي تشكّل مصير حياته ومجتمعه. هذا الضياع في التفاصيل ليس ضعفًا عابرًا في الانتباه، بل خلل عميق في بنية الوعي الإنساني ذاته.
العالم المعاصر صنع بيئة مثالية لهذا النوع من التشتيت. الإعلام، التكنولوجيا، الصراعات السياسية، كلّها تخلق ضجيجًا مستمرًّا يُغرق الإنسان في سيول من المعلومات والتفاهات اليومية، حتى صار عاجزًا عن رؤية ما وراء الحدث. أصبح يعيش في ردّ الفعل لا في الفهم، في اللحظة لا في التاريخ، في الجزئي لا في الكلي.
يتابع الناس أخبار الصراعات والانتخابات والأزمات الاقتصادية وكأنها أحداث منفصلة، بينما هي في حقيقتها خيوط متشابكة في نسيج واحد من صراع النفوذ وتوزيع السلطة والثروة على مستوى الكوكب. السياسات الكبرى لا تُدار في صخب الشاشات بل في صمت الغرف المغلقة، حيث تُرسم خرائط الاقتصاد والحروب والمناخ والثقافة لتوجيه وعي الشعوب نحو ما يخدم مصالح الأقوياء.
إن أخطر ما تواجهه الإنسانية اليوم ليس الجوع أو الحرب فقط، بل ضياع الرؤية. من يفقد وعيه بالمشهد العام يصبح تابعًا دون أن يدري، يحارب في معارك ليست معاركه، ويفرح بانتصارات زائفة، ويغضب لأسباب مصنوعة له سلفًا. وهكذا يظل يدور في فلك القوى التي تتحكم في اتجاه نظره واهتمامه.
في السياسة الدولية، يُدار العالم على مبدأ “التشتيت الموجّه”. تُخلق الأزمات الصغيرة لصرف الأنظار عن التحولات الكبرى. تُضخّ الصراعات الإعلامية لتغطي على إعادة تشكيل الخريطة الاقتصادية أو الاستراتيجية. وتُزرع قضايا الهوية والدين والجندر والعرق لتقسيم الشعوب إلى جزر متنازعة، بينما المصالح العظمى تتراكم بهدوء في يد القلة التي تملك القرار.
القرآن الكريم نبه إلى هذا المرض الإدراكي حين دعا إلى النظر الكلي لا الجزئي، فقال تعالى:
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ [العنكبوت: 20].
النظر هنا ليس إلى حدث أو كائن، بل إلى "كيف"، أي إلى المنهج الكلي الذي يُظهر الحكمة في كل شيء. فالتأمل في المشهد العام يكشف للإنسان أن كل حدث صغير إنما هو خيط في شبكة أعظم، وأن فقدان الوعي بالكلية هو أول طريق التلاعب بالعقول.
الوعي الحقيقي يبدأ حين يسأل الإنسان نفسه: ما الهدف من هذه الضوضاء؟ من المستفيد من هذا الصراع؟ ولماذا تُوجّه أنظاري إلى هذه القضية دون تلك؟ عندها فقط يخرج من أسر التفاصيل إلى أفق الرؤية الشاملة.
وفي النهاية، لا يفسد العالم حياة الإنسان بقدر ما يفسدها غياب وعيه. لأن من يرى الصورة الكبرى يستطيع أن يضع التفاصيل في موضعها الصحيح، أما من غرق فيها فقد خسر القدرة على الفهم والاختيار معًا. إن استعادة الرؤية الكلية ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية لإنقاذ الإنسان من عبودية التفاصيل في زمنٍ يُدار بالعناوين أكثر مما يُدار بالحقائق.
وهكذا، لا يتحرر الإنسان إلا حين يرفع رأسه من صغائر الأحداث ليرى المشهد الكامل، فيدرك أن النظام الكوني والسياسي والإنساني كله، مهما بدا متناقضًا، إنما يسير وفق سننٍ دقيقة تحكمها إرادة واحدة، لا تتبدل ولا تتناقض، لكنها تنتظر من يملك البصيرة ليراها.
تعليقات
إرسال تعليق