الفقرة التعريفية العامة:
هو رمز التأليف المستمر بين الأمور
والأحوال المتفرقة والمختلفة، وبين الفرقاء الذين تجمعهم بعد فرقة، فهو يضبط
التباين ضبطًا تامًا، ويُحدِّد الأطراف ويُبرزهم على غيرهم، حتى يغدو مجموعهم
كأنهم كيان واحد هو الأفضل، الذي يُؤنَس به دون سواه، ويتفاوت أثره في ذلك بحسب
القياس، فيكون في بعض المواضع أدنى درجات الجمع، وفي أخرى أقصاها.
الألف هو مبدأ الجمع والربط، وبه يبدأ كل
وجود لغوي، كما يبدأ به الوجود الكوني بأمر الله. فهو يجمع المتفرقات لتتحول إلى
وحدة متماسكة تُدرِك كمالها في الائتلاف.
لتوضيح دلالات حرف الألف (أ) وفق المعاني السابقة:
¾ عندما نقول اجتمع،
ائتلف، اتحد، فإن دخول الألف في أول الكلمة يعكس معنى الجمع بعد التفرّق، فهي
توحي بالضمّ والتأليف بين عناصر متباعدة، ومن الجذر ألف، نلحظ كيف يصير
الصوت الأول رابطًا بين المختلفات في معنى الودّ والاجتماع.
¾ وفي الأفعال ألفَ –
يؤلّف – تأليف، نجد الأصل اللغوي المباشر الذي يُجسّد فعل الجمع والتقريب بين
المختلفات حتى تصير وحدة واحدة منسجمة. فالتأليف فعل إلهي وإنساني في آنٍ، كما قال
تعالى:
{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ }
(سورة الأَنْفال 63)،
فالمعنى أن الله جمع القلوب المتنافرة في
ألفة واحدة، والألف في الفعل ألفَ هي أداة هذا الربط، بها يبدأ الوصل
وينتهي الاختلاف.
¾ وفي كلمات مثل إسلام –
إيمان – إحسان، نجد الألف مفتتحًا يدل على التحوّل من حال التشتّت أو الجفاء
إلى حال الانسجام والارتقاء الروحي؛ فالإسلام يجمع الإنسان بخالقه، والإيمان يجمع
القلب باليقين، والإحسان يجمع الفعل بالنية؛ كل منها حالة توحيد داخلية تبدأ من
الألف، رمز الوحدة والاتصال بالأصل الواحد.
¾ أما في أخوة – أُلفة –
اتحاد، فالألف تربط النفوس المتفرقة في روابط مودّة وقرب، فتُنشئ وحدة شعورية
واجتماعية بعد الاختلاف. وهذه هي طبيعة الألف: لا تبدأ إلا لتصل، ولا تُلفظ إلا
لتربط.
¾ وفي أفعال مثل أشرقت –
أضاء – أزهرت، نرى الألف تجمع الظلمة والنور، والموت والحياة في لحظة التحوّل
إلى ظهور وبروز؛ الألف هنا أداة البزوغ والانبثاق، فهي الخط الفاصل بين الكمون
والظهور، بين الغيب والشهادة.
التحليل القرآني المتعمق لحرف الألف:
¾ في قوله تعالى: { اللهِ
أَكْبَرُ } (سورة التوبة 72)، الألف الأولى في "الله" هي أصل الجمع
بين جميع الأسماء والصفات الإلهية؛ بها يبتدئ كل ذكر، لأنها مفتاح الوجود اللفظي
والروحي، وتدل على أن جميع الكمالات ترجع إلى مصدر واحد جامع.
¾ وفي قوله: { أَلَمْ نَشْرَحْ
لَكَ صَدْرَكَ } (سورة الشرح 1)، الألف في "ألم" تفتح الخطاب بين
الله ورسوله. هي نداء للتأليف بين العبد والرب، بين الهمّ والرحمة، بين الضيق
والانشراح؛ فالألف تُزيل المسافة، وتبدأ الاتصال بعد انقطاع.
¾ وفي قوله: { أُولَئِكَ عَلَى
هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ } (سورة البقرة 5)، الألف في "أولئك" تشير إلى
علو المرتبة وتمام الاصطفاء لجماعة واحدة مهتدية، فهي توحِّدهم على صراطٍ واحد بعد
تفرّق السبل.
¾ وفي قوله: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ
الْقُرْآنَ } (سورة النساء 82)، الألف في "أفلا" تستدعي العقل
للانتباه، فهي بوابة الانتقال من الغفلة إلى الوعي، وصوت الاستفهام الذي يؤلف بين
الفكرة ونقيضها، بين الجهل والعلم، بين الغفلة والإدراك.
¾ أما قوله تعالى: { وَأَلَّفَ
بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } (سورة الأَنْفال 63)، فهو خلاصة جوهر الألف: فعل إلهي
يجمع المتنافرين، يحوّل القسوة إلى مودة، والعداء إلى انسجام. فالحرف هنا شخصية
جامعة تعمل في مستوى نفسي وروحي واجتماعي.
¾ وفي قوله: { أَتَى أَمْرُ
اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ } (سورة النحل 1)، الألف في "أتى"
إعلان بدء التحقق بعد الغيب، فهي تنقل الفعل من العدم إلى الوجود، وصوتها المستقيم
يشبه نزول الأمر الإلهي من العلو إلى الواقع.
في النطق والشكل:
¾ مخرج الألف من الجوف، من
انفتاح الفم وامتداد النفس بلا عائق.
¾ صفاته الهمس والانفتاح
واللين والاستقامة.
¾هيئته
خط عمودي يصل بين العلو والسفل، رمز لوحدة السماء والأرض.
¾ فيزيائيًا يمثل اتصال
الداخل بالخارج، والمبدأ بالمنتهى.
¾ يُرسم مستقيمًا لأن معناه
الاستقامة والوصل بلا انحناء.
خلاصة شخوص الألف:
الألف هو محور الجمع والتوحيد بين
المتقابلات، وبداية الحركة واتجاهها نحو الوصل، ومبدأ الألفة بعد الوحشة، ووسيلة
الاتحاد بين الخلق والخالق، وأصل الحروف ومنبع النطق.
الألف إذًا هو الجسر بين الفُرقة
والاتحاد، بين الأرض والسماء، بين المادة والمعنى، به يُبتدأ كل أمر جامع، وبه
تُختَتم دورة التعدد في وحدة الكلمة والمعنى.
تعليقات
إرسال تعليق