القائمة الرئيسية

الصفحات

موسوعة التأويل بالحرف القرآني: 2 – شخوص حرف الباء

 


الفقرة التعريفية العامة:

¾ حرف الباء (ب) هو رمز الظهور والبروز، دالٌّ على انبثاق الشيء من باطنه إلى سطح الوجود، يحمل في جوهره معنى التحوّل من الكمون إلى التجلّي، ومن الخفاء إلى البيان، إذا كان الألف يجمع ويفتتح الوجود، فإن الباء تُظهر ما جُمِع، وتُخرجه من مكمنه إلى فضاء الإدراك، هو صوت الانفصال المنظّم، الذي يفصل الداخل عن الخارج ليُعرّف الحدود بينهما. كما يدلّ على الثبات في الذات مع تغيّر ما حولها، فيكون ما يتّصف به ثابتًا بوضوحه لا يلتبس، ظاهرًا رغم تبدّل السياقات.

الوظيفة اللغوية والتطبيق المعنوي:

عند النظر في الألفاظ، نجد الباء تصنع دائمًا حركة “الانفصال إلى الظهور”.
¾ ففي بدا الصبح نجد لحظة الانكشاف بعد احتجاب، إذ خرج الضوء من رحم الظلمة.

¾ وفي برز القمر يظهر المعنى ذاته، إذ تحوّل من كامن خلف الأفق إلى متجلٍّ في السماء.

¾ أما بان الحق فتمثّل ذروة الدلالة؛ إذ يخرج المعنى الصادق من التباس الباطل.

¾ وفي الجذر بثق كما في قوله بثق الماء، فالفعل يصف انفجار الداخل إلى الخارج، انفتاح المكبوت الجوفي نحو العالم الظاهر.

¾ كذلك بزغت الشمس تشير إلى حركة البروز من وراء حجاب الأفق.

¾ وفي بسق النبات يظهر الارتقاء العمودي، إذ يتحوّل الكامن في التربة إلى قائم ظاهر للحسّ.

¾ أما في مواضع الثبات، مثل بقي الأثر أو بيت القرار، فالباء تحافظ على حضورها كرمز للوضوح المستقرّ الذي لا يتغيّر رغم تبدّل ما حوله. فالثبات في الذات أحد وجوه الظهور الدائم.

التحليل القرآني المتعمق:

¾ في قوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، تأتي الباء أول حروف الوحي، هي أداة الاتصال بين العبد والرب، بين الاسم والمسمّى، فهي توصل الفعل الإنساني بالمعنى الإلهي، الباء هنا تُدخل القارئ “في” الاسم، لا “معه”، لتعلن بداية الوجود القرآني بالانتقال من العدم إلى البيان، وطلب انبثاق البيان من القرآن الكريم.

¾ وفي قوله: { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } (سورة البقرة 117)، تتجلّى الباء كمفتاح الخلق من العدم، “بديع” أي مظهر المبتدأ الأول، فالباء تصنع لحظة خروج الصورة.

¾ وفي قوله: { وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا } (سورة إِبراهيم 21)، نرى تجسّد فعل البروز في أقصى صوره؛ إذ يظهر الخلق من وراء ستور الدنيا إلى حضور الحق، فهي حركة الكشف الكبرى.

¾ وفي قوله: { بِغَيْرِ حِسَابٍ } (سورة البقرة 212)، الباء تربط المعنى بالوسيلة، لتدلّ على دخول الفعل في محيط اللانهاية، فكأنها تعبر بين العالمين: المحدود واللامحدود.

¾وفي قوله: { بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } (سورة النساء 49)، الباء تفصل وتظهر المعنى الإلهي بعد نفي بشري، فتُبرز التمايز بين الفعل الإلهي وفعل الإنسان.

¾ وفي قوله: { بَارَكْنَا حَوْلَهُ } (سورة الإسراء 1)، الباء في "باركنا" تفيد الامتداد من المصدر إلى المحيط، فهي تُخرج الخير من أصله إلى مظاهره المنتشرة، فتصبح البركة فعل بروز متجدّد من مركز إلى محيط.

النطق والشكل:

¾ مخرج الباء من بين الشفتين، بانطباقهما ثم انفتاحهما، فيحدث صوت الانبثاق المادي للهواء، وهو تمثيل جسدي للظهور من الداخل إلى الخارج.

¾ صفاته: الجهر، الشدّة، والاستفحال؛ وكلها تدعم طبيعته في إظهار الشيء بثبات وصوت واضح.

¾ شكل الحرف الكتابي مقوس مغلق من الأعلى، منفتح من الأسفل، وتحته نقطة واحدة؛ كأنه وعاء يحوي المعنى ثم يُسقطه إلى أرض الظهور بالنقطة. هذه النقطة هي “بذرة الوجود”، التي خرجت من باطن الحرف إلى سطح الكتابة.

¾ فيزيائيًا، يمثل الباء حركة الضغط ثم الانفراج، ما يرمز إلى دورة الظهور بعد الكمون.

الخلاصة الشخوصية:

الباء هو حرف الانبثاق والبيان، حدٌّ فاصل بين الغيب والشهادة. يظهر الشيء بوجوده كما هو، بلا خفاء ولا التباس، ويرمز إلى فعل الوجود حين يُعلن ذاته، إلى الصوت الأول الذي يكشف بعد سكوت، وهو الحرف الذي يبدأ به القرآن بعد الألف، ليُظهر الكلمة بعد أن جُمِعت.
فالباء إذًا هو وجه الوجود الظاهر، ومبدأ الانكشاف، والبوابة التي تخرج منها المعاني من باطن الغيب إلى ساحة الإدراك.

تعليقات