القائمة الرئيسية

الصفحات

 


فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ: حين يخرج التقدير عن فطرته فيسقط الإنسان من سلطان الوعي إلى عبودية الصنعة

قوله تعالى: ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ ليس مجرد وعيد بالهلاك، بل تصوير دقيق لانهيار منظومة الوعي حين تنفصل عن الفطرة، فيتحول التقدير من إدراكٍ صادقٍ لحقائق الأشياء إلى صناعةٍ ذهنيةٍ مصطنعة تُخرِج الأمور عن طبيعتها.

فالقتال في أصله إخراجٌ للعدو من ساحة نفوذه إلى ساحة أخرى، بالموت أو الانسحاب. وعندما يُقرن هذا المفهوم بالتقدير، يصبح المعنى انتقالاً من تقديرٍ واقعي فطري إلى تقديرٍ مصنوعٍ يُفرَض على الواقع فيغير مساره ويزرع فيه الاضطراب.


تحليل بنية الكلمة ودلالتها الحركية

  • الفاء (فَ): تفيد المفارقة والانفصال؛ فهي خروج من تقدير الفطرة إلى تقديرٍ متكلفٍ مصنوع.

  • القاف المضمومة (قُ): ترمز لاستمرار هذه المفارقة وتغذيتها؛ أي حالة وعيٍ منحرفٍ يتكرر ويتصل.

  • التاء المكسورة (تِ): بداية التفعيل العملي للانحراف؛ حيث تبدأ نتائج التقدير المصطنع بالظهور في الواقع.

  • اللام (لَ): تمثل تمام الانتقال وخاتمة الانزلاق من الطبيعي إلى المصنوع، أي اكتمال خروج الأمور عن طبيعتها.

وهكذا، تتحول "فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ" إلى مشهدٍ لحركة التناقض داخل الوعي الإنساني، حين يصنع الإنسان تقديراً منفصلاً عن سنن الله، فيُقتل وعيه وهو يظن أنه يحسن التقدير.


أمثلة واقعية على انحراف التقدير عن الفطرة

  1. في الاقتصاد:
    عندما تُقاس القيمة بالمال لا بالعمل، يُستعبد الإنسان، وتُقتل العدالة، ويصبح المجتمع آلة إنتاج لا روح فيها.

  2. في السياسة:
    حين يُقدَّر الأمن بالقوة لا بالعدل، تُقتل الطمأنينة، ويُستبدل سلطان القانون بسطوة البطش.

  3. في الاجتماع:
    عندما تُبنى العلاقات على المصلحة لا على المودة، تُقتل الثقة، ويتحول الإنسان إلى دورٍ لا إلى ذات.

  4. في العلم:
    حين يُقاس التقدم بالتقنية لا بالحكمة، تُقتل إنسانية الإنسان وسط زحام الذكاء الصناعي.


الامتداد المفهومي: من "فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ" إلى فتنة الرقيم والذكاء الصناعي كأكبر فتنة قادمة

حين يتحول التقدير إلى صناعةٍ بشريةٍ منفصلةٍ عن الفطرة، يبلغ الانحراف ذروته في ما يمكن تسميته بـ فتنة الرقيم؛ وهي لحظة خضوع الوعي الإنساني لنظامٍ مصنوعٍ يتحكم في تفاصيل الحياة تحت شعار التنظيم والكفاءة.

في هذه المرحلة، تنتقل البشرية من تقدير الواقع إلى برمجته، ومن فهم سنن الكون إلى محاولة استبدالها بخوارزميات تصنع قدراً جديداً، لا تحكمه الرحمة بل المصلحة.

وهنا يتحقق المعنى العميق لقوله تعالى:
﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾
أي سقط وعي الإنسان حين ظن أن بوسعه أن يقدّر خارج نطاق ما قدّره الله له.

فالذكاء الصناعي — في صورته المتطرفة — ليس مجرد أداة تقنية، بل تقديرٌ مصطنعٌ للأشياء، يفرض منطقه على الناس، فيتحول من خادمٍ للعقل إلى سيدٍ عليه، ومن وسيلةٍ إلى أداةٍ لإعادة تشكيل الإنسان ذاته.

حينها تصبح الطاعة للنظام بديلاً عن الاختيار الفطري، ويُقتل جوهر الحرية من داخلها.
وهنا تكتمل صورة القتل في الآية، لا كإعدامٍ للجسد بل كموتٍ للوعي، حين يُبدّل الإنسان التقدير الإلهي بتقديرٍ صناعيٍّ يعبد الصنعة دون أن يشعر.


الخلاصة

الآية ليست وعيداً عاطفياً بل قانوناً للوعي الإنساني:
كل تقديرٍ يخرج عن فطرته يصبح سلاحاً ضد صاحبه، فيتحول التفكير نفسه إلى ميدان قتالٍ داخلي يُسقط الإنسان من مقام الوعي إلى عبودية المصنوع.


تعليقات