القائمة الرئيسية

الصفحات

وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا

 


منبت الإنسان ومنشؤه: العلاقة بين الأرض والهوية في ضوء قوله تعالى ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ  الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾

تبدأ العلاقة بين الإنسان والأرض من أصل الخلق نفسه؛ فالله تعالى يقول في سورة نوح:
﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾.
الآية تُبرز أن الإنسان ليس كائنًا غريبًا عن الأرض، بل جزءٌ منها: نشأ منها، يعيش بما تُخرجه، ويعود إليها في نهاية الأمر. هذا الارتباط ليس ماديًا فحسب، بل وجوديًّا وهوويًّا، يشكّل أحد أركان الشعور بالانتماء والهوية.

“الإنبات” استعارة عملية خلق والنمو؛ فكما تنبت البذرة من التربة وتمتص غذاءها منها، كذلك الإنسان ينبثق من عناصر الأرض ويتغذى بنتاجها. لذلك، فإن أي انفصال بين الإنسان والأرض هو في جوهره انفصال عن الفطرة التي فُطر عليها.

الإنسان العربي بين الأصالة والاستيراد

في الحالة العربية المعاصرة، يبدو هذا الانفصال في صور متعددة. فمع تراجع الزراعة المحلية واعتماد معظم الدول العربية على الاستيراد الغذائي بنسب تتجاوز 60 إلى 80 في المئة وفق تقارير منظمة الأغذية والزراعة (FAO) والإسكوا (ESCWA)، أصبح الإنسان العربي يستهلك غذاءً لم تنبته أرضه. هذا التحول المعيشي يُضعف الرابط الفطري بين الإنسان وأرضه، ويجعل العلاقة بها علاقة مادية مؤقتة لا وجدانية دائمة.

يتجاوز الأمر حدود الطعام إلى نمط الحياة كله. فالثقافة السائدة في المدن العربية الحديثة مستوردة إلى حدٍّ كبير: في الأزياء، والعمارة، والتعليم، وحتى المفاهيم الجمالية والسلوكية. ومع فقدان الملمس المحلي للأرض والثقافة، تضعف مشاعر الانتماء، ويظهر ما يسميه علماء الاجتماع بـ الاغتراب الداخلي — أن يشعر الإنسان بالغربة في وطنه، وكأن الأرض التي يسكنها لا تعرفه ولا يعرفها.

الأرض كذاكرة وهوية

الارتباط بالأرض لا يقوم على الملكية المادية وحدها، بل على التجربة الحسية والمعنوية التي يعيشها الإنسان فيها. رائحة التراب بعد المطر، شكل الحقول، لهجة الجيران، العادات الزراعية والمواسم—all هذه التفاصيل الصغيرة تبني ما يُعرف بـ “الذاكرة المكانية”، وهي أساس تكوين الهوية الجمعية. حين تُمحى هذه التفاصيل بفعل العولمة العمرانية والثقافية، يفقد الإنسان جذوره النفسية التي تربطه بمكانه، ويبدأ في البحث عن هوية بديلة في رموزٍ خارجية.

في المدن العربية الحديثة، تتقلص المساحات الخضراء لصالح الأبراج الإسمنتية، وتستبدل الأسواق الشعبية بمجمعات تجارية مغلقة. هذه التحولات تخلق إنسانًا منفصلًا عن البيئة الطبيعية، يعيش في فضاء مستورد لا يحمل بصمة أرضه، فيضعف إحساسه بالمسؤولية تجاهها. الدراسات البيئية والاجتماعية الحديثة، مثل بحوث “Place Attachment in Middle Eastern Urban Contexts”، تؤكد أن الانتماء المكاني ينخفض كلما ابتعد الإنسان عن بيئته الطبيعية، وأن ضعف الارتباط البيئي يؤدي إلى ضعف الحس الوطني.

بين الإنبات المادي والإنبات المعنوي

الآية الكريمة تشير إلى نوعين من الإنبات: ماديّ، يتمثل في الخلق والغذاء، ومعنويّ، يتمثل في القيم والعطاء. حين يُستبدل الإنبات الثاني بمصادر مستوردة، تتراجع الأصالة. فكما أن النبات الذي يُغرس في تربة غريبة يضعف جذره، كذلك الإنسان الذي ينشأ في بيئة ثقافية واقتصادية مستوردة يفقد توازنه بين الأصل والمكان. لذلك فإن استعادة العلاقة مع الأرض ليست مسألة بيئية أو اقتصادية فقط، بل مسألة هوية ووعي.

نحو إعادة الجذور

العودة إلى الأرض لا تعني الانغلاق على الذات، بل استعادة العلاقة الفطرية بين الإنسان ومصدره. يمكن للأمم أن تنفتح على العالم دون أن تفقد جذورها إذا ظلت تعرف من أين تنبت وماذا تغذي به أبناءها.
وفي السياق العربي، يبدأ هذا الوعي من إصلاح العلاقة مع الإنتاج المحلي، واحترام البيئة، وإحياء الزراعة والثقافة المرتبطة بالأرض. فكلما ازداد الإنسان قربًا من ترابه، ازداد وعيه بمعنى الوطن، لأن الأرض التي أنبتته هي التي تحفظ له إنسانيته.

الخلاصة

قوله تعالى ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾ ليس توصيفًا بيولوجيًا فحسب، بل قاعدة فكرية لحركة الوعي الإنساني. فكلما ازداد الإنسان بعدًا عن تربة نشأته، ضعف انتماؤه، وازداد اغترابه، حتى وإن بقي في وطنه.
إن إعادة الارتباط بالأرض ليست مسألة زراعية أو اقتصادية، بل عودة إلى سنّة الخلق التي تجعل الإنسان منتمياً، حرًّا، ومسؤولًا عن موطنه، كما أنبته الله منه أول مرة.

أنت الان في اول موضوع

تعليقات