كيف تحوّل الفساد من انحراف فردي إلى منظومة ثقافية تتحدى الهدي القرآني؟
لم يعد الفساد عارضًا عابرًا في مجتمعاتنا، بل أصبح منظومة متجذرة تتغذى على الصمت والمجاملة والمصلحة. الأخطر من الفساد ذاته هو هذا التحالف غير المعلن بين الفاسد ومن يبرر له، بين من يسرق ومن يصمت، بين من يخون ومن يجمّل الخيانة.
لقد تغيّر المشهد الأخلاقي حتى لم يعد الفاسد يخشى العار، بل صار يجد من يبرر له فعله، ويحوله من جرمٍ إلى “حيلة ذكية”، ومن خيانةٍ إلى “فطنة اجتماعية”. وهكذا بدأنا نعيد تعريف القيم، لا بما أنزله الله، بل بما يُرضي المنتفعين.
الآية التي غيبناها: لا تكن للخائنين خصيمًا
قال تعالى:
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105].
في هذه الآية قاعدة قرآنية عظيمة في بناء العدالة: تحريم الدفاع عن الخائنين.
فالخصومة هنا ليست مجرد مرافعة قانونية، بل موقف أخلاقي يحدد وجهة الإنسان في صراعه مع ذاته والمجتمع.
لكننا في واقعنا المعيش غيّبنا هذه الآية عن وعينا، حتى صار الدفاع عن الفاسدين لونًا من “اللباقة”، وأضحى السكوت عن الخطأ حكمة، وكأن القرآن لم يُنزَل ليحكم حياتنا، بل ليُتلى في المناسبات فقط.
حين تحوّل الفساد إلى ثقافة
لقد انتصر الفساد أولاً في اللغة قبل أن ينتصر في الواقع.
صرنا نسمي الرشوة “هدية”، والاختلاس “مكافأة”، والمحسوبية “واجبًا اجتماعيًا”.
بهذا التلاعب اللغوي انهار الضمير الجمعي، وتحولت الجريمة إلى وجه من وجوه الذكاء.
في مثل هذا المناخ، يصبح الفاسد بطلًا، لا لأنه أصلح الواقع، بل لأنه تفوق على النظام. والمجتمع الذي يحتفي بالمخادع إنما يقتل النزاهة في أبنائه دون أن يشعر.
تحالف المنافقين والخائنين
يرسم القرآن تحالفًا دقيقًا بين المنافقين والخائنين؛ كلاهما يعمل في الظل لتقويض الإيمان والثقة.
أحدهما يسرق المال، والآخر يسرق المعنى. وإذا كان الفساد المالي ينهك اقتصاد الأمة، فإن الفساد الأخلاقي ينهك ضميرها، وكلاهما خيانة من نوع واحد.
الأخطر أن بعض المثقفين والإعلاميين صاروا يجيدون تزيين القبح. يدافعون عن المفسدين باسم الحرية أو “النية الطيبة”، فيتحول القلم من أداة وعي إلى وسيلة تضليل، ويصبح المنبر الإعلامي منصة لتبرير الانحراف.
العلاج القرآني: المواجهة لا المجاملة
قال تعالى:
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58].
ثلاث كلمات تلخص منهج المواجهة: انبذ إليهم على سواء.
أي واجههم بوضوح وعدل، لا غدر فيه ولا تردد. فالسكوت عن الفساد ليس حيادًا، بل شراكة صامتة في الخيانة.
العلاج يبدأ من الوعي الفردي: أن يدرك كل إنسان أن تبرير الفساد، ولو بكلمة، خيانة للحق. وأن المجاملة في مواجهة الباطل ليست خلقًا حسنًا، بل ضعفًا قاتلًا يبرر استمرار الظلم.
العودة إلى المنهج الرباني
القرآن لا يدعو إلى المثالية المطلقة، بل إلى المسؤولية الممكنة.
أن نقول "لا" حين تكون "نعم" أسهل.
أن نختار الصدق حين يسيطر الخوف.
أن نعيد للضمير سلطته وللحق مكانته.
لن ينهض مجتمع يبرر الفساد، ولن يُصلح الله عمل من يحب الخائنين.
مواجهة الفساد ليست معركة بين طبقات، بل بين من يخاف الله ومن يخاف الناس.
فلنعلنها بوضوح:
الفساد ليس قدرًا، والخيانة ليست وجهة نظر.
ومن يصمت عن الفاسد، فقد اختار موقعه في صف الخيانة ولو بغير قصد.
خاتمة
إن الإصلاح يبدأ من كلمة، ومن رفض بسيط في وجه العادة، ومن قلب لم يتعود على تبرير الباطل.
فالفساد لا يُهزم بالضجيج، بل بالوضوح، وبإيمان عميق أن من يدافع عن الخائنين إنما يشارك في خيانة جديدة.
اللهم احفظ مجتمعاتنا من الفساد والمفسدين، واهدنا إلى ما تحبه وترضاه من الحق والعدل.
تعليقات
إرسال تعليق