مدخل تحليلي
لا يمكن فهم مشكلة تمثيل المطرية في البرلمان بمجرد قراءة سطحية لتوزيع الأصوات أو عدد المرشحين.
المسألة أعمق من ذلك، وترتبط ببنية اجتماعية وسياسية ونفسية ممتدة عبر عقود، تتداخل فيها العوامل العائلية، ومسارات النفوذ، والتصويت العقابي، والذاكرة الانتخابية المحلية، وطريقة إدارة الحملات على المستوى الميكروي داخل اللجان.
ما يحدث في كل دورة ليس مصادفة، بل نتيجة معادلة تتكرر بدقة شبه ثابتة:
تفتت أصوات المطرية + تماسك المنزلة = حسم المقاعد للمنزلة.
لكي يتغير هذا المشهد، يجب أولاً تفكيك أسبابه بعمق.
أولاً: قراءة في بنية الدائرة
دائرة المطرية–المنزلة ليست دائرة متجانسة.
هي مزيج من:
-
مدينة بحرية مفتوحة (المطرية) ذات نسيج اجتماعي متنوع وغير هرمي.
-
مركز ريفي واسع (المنزلة) يتكون من عشرات القرى المرتبطة بشبكات عائلية مترابطة وتقاليد انتخابية صلبة.
هذه التفاوتات تنتج سلوكاً انتخابياً مختلفاً:
-
المطرية تعتمد على الفردية: الأشخاص، العلاقات الشخصية، التاريخ المهني.
-
المنزلة تعتمد على البنية: العائلات، التحالفات، الكتل القروية، والزعامات الريفية.
بهذا الشكل، يتكوّن ما يسمى في علم الاجتماع السياسي:
كتلة تصويتية منضبطة (المنزلة) في مقابل كتلة تصويتية مرنة ومتشظية (المطرية).
ثانياً: الأخطاء الجوهرية في أداء مرشحي المطرية
ليست كل الأخطاء سطحية، بل عدد منها خطير في تأثيره طويل المدى:
1) سوء فهم قواعد اللعبة
كثير من مرشحي المطرية يظنون أن الشعبية الشخصية تكفي للفوز.
لكن الانتخابات في هذه الدائرة ليست منافسة «شعبية»، بل منافسة «قدرة على تحريك آلة».
الجزء الأكبر من الأصوات في القرى والريف لا يتحرك تلقائياً بل يحتاج إلى:
-
كوادر،
-
لجان،
-
نقل،
-
مفاوضات،
-
رموز عائلية،
-
شبكات مصالح.
من يدخل المنافسة دون فهم هذه القواعد، يدخل مهزوماً منذ البداية.
2) تعدد المرشحين دون وزن تنظيمي
في كل دورة ينتج المشهد نفسه:
مرشحين كُثر من المطرية، كل منهم لديه جزء من الشعبية، لكن لا يملك واحد منهم القدرة على تجميع الكتلة التصويتية الكاملة للمدينة.
وهكذا تتوزع آلاف الأصوات بطريقة عشوائية، وتضيع القوة الحقيقية للمطرية.
3) الانكفاء داخل المطرية
مرشح المطرية غالباً يركز 80% من جهده داخل المدينة، ويعامل المنزلة على أنها "ملعب للآخرين".
هذا خطأ استراتيجي قاتل.
النجاح الحقيقي يبدأ من المنزلة، لأن حجم أصواتها أكبر، وتنظيمها أقوى.
4) الفشل في بناء تحالفات
السياسة ليست منافسة عاطفية، بل حسابات دقيقة.
ومرشح المطرية يحتاج للتحالف مع عائلات وقوى داخل المنزلة، وإلا سيظل في خانة «مرشح المدينة فقط».
5) تعطيل الكتلة التصويتية بسبب الصراعات البينية
مرشح المطرية في كثير من الأحيان يدخل في صراع مفتوح مع منافس من أبناء المطرية بدل توحيد الصف.
في المقابل، مرشح المنزلة يوزع الأدوار بدقة، فيستفيد من أصوات المطرية والمنزلة معاً.
6) ضعف الرسالة السياسية
خطاب مرشح المطرية يتسم غالباً بالتشتت:
-
وعود عامة،
-
لغة عاطفية،
-
عدم وجود مشروع واضح.
أصوات القرى تتجاوب مع الرسائل المحددة والقابلة للقياس، وليس الشعارات.
ثالثاً: لماذا يفوز مرشحو المنزلة باستمرار؟ تحليل البنية المؤسسية
الأمر يعود إلى مجموعة من المقومات البنيوية:
1) تماسك المجتمع الريفي
القرى في المنزلة تتحرك عادة وفق ثقل عائلي أو رموز تقليدية.
وهذا ينتج «انضباطاً انتخابياً» لا يتوفر في المطرية.
2) ماكينة انتخابية متحفزة
لا تظهر الماكينة في موسم الانتخابات فحسب، بل تعمل طوال السنوات الأربع:
-
حضور مناسبات،
-
متابعة خدمات،
-
دعم الأهالي،
-
علاقات متبادلة.
عندما يأتي موسم الانتخابات، تكون الأرض ممهدة.
3) وجود مرشحين بمرجعية خدماتية قوية
بعض مرشحي المنزلة لهم نفوذ إداري أو علاقات تنفيذية واسعة، مما ينعكس على ثقة الناخب في قدرتهم على «جلب خدمات»، وهو معيار أساسي في الريف.
4) التفاوض المسبق مع القوى الصغيرة
قبل الانتخابات بأسابيع، تحدث مفاوضات دقيقة مع رموز القرى الصغيرة لتحديد اتجاه الكتل.
هذه الآلية نادراً ما يفعلها مرشح المطرية.
5) القراءة الدقيقة للخريطة
المنزلة تعرف نقاط قوتها ونقاط ضعف المطرية.
ولهذا تستخدم استراتيجية مزدوجة:
-
حشد قوي في مناطقها.
-
كسر الكتلة التصويتية في المطرية عبر التقارب مع بعض رموزها أو عبر دعم مرشحين ثانويين من المدينة.
رابعاً: مستقبل المطرية في التمثيل البرلماني… من الأزمة إلى إعادة التوازن
الانتقال من موقع «رد الفعل» إلى «صناعة النتيجة» يحتاج خطة متكاملة:
1) مرشح توافقي واحد
إذا لم تتفق المطرية على مرشح واحد في كل دورة، فإن أي حديث عن الفوز يصبح رفاهية نظرية.
2) بناء ماكينة انتخابية ثابتة
لا بد من إنشاء فريق عمل دائم، وليس مؤقتاً:
-
قاعدة بيانات للجان.
-
منظومة تواصل.
-
كوادر مدربة.
-
لجنة انضباط انتخابي.
3) العمل على مدار أربع سنوات
الانتخابات لا تُربَح في الشهر الأخير، بل تُصنع بالتدرج.
المطرية تحتاج لمرشح «مقيم سياسياً» وليس مرشحاً موسمياً.
4) التغلغل المدروس داخل المنزلة
وجود قاعدة انتخابية داخل المنزلة ضرورة لاستعادة التوازن.
ليس بهدف السيطرة، بل بهدف كسر الاحتكار.
5) خطاب سياسي جامع للمدينة
لا بد من طرح قضية موحدة، تمثل المشروع السياسي لأهل المطرية مثل:
-
تطوير الواجهة البحرية.
-
حماية مصالح الصيادين.
-
تحسين البنية التحتية.
-
حل ملف العشوائيات ومشكلات الصرف.
-
مشروعات البحيرة.
كلما امتلك المرشح قضية مركزية موحدة، زادت قدرته على توجيه سلوك الناخبين.
6) تحالفات عابرة للمراكز
التحالف الذكي بين جزء من قرى المنزلة وجزء من المطرية يمكنه تغيير المعادلة خلال دورة واحدة فقط.
7) إدارة الصراع بذكاء
المنافسة يجب ألا تتحول إلى معركة شخصية بين أبناء المطرية.
يجب أن تتجه نحو الحفاظ على الصوت داخل المدينة لا تمزيقه.
خامساً: خلاصة تحليلية
المشكلة ليست في ضعف المطرية، بل في غياب استراتيجية انتخابية طويلة الأمد.
المنزلة تفوز لأنها تعتمد على البنية والتنظيم والتحالفات، بينما المطرية تخسر لأنها تعتمد على الحماس الفردي وردود الأفعال.
التغيير ممكن، لكنه يحتاج إلى:
-
قيادة تنظيمية
-
توحيد مرشح
-
عمل مستمر
-
خطاب موحد
-
حضور داخل المنزلة والمطرية معاً
عندما تتحقق هذه العناصر، ستتغير نتيجة الانتخابات بصورة طبيعية، مثلما تنقلب موازين البحيرة عندما يتغير اتجاه الريح، ولكن هذه المرة لن تكون الريح عابرة، بل مبنية على تخطيط واعٍ يقود المدينة نحو تمثيل عادل يستحقه أبناؤها.
تعليقات
إرسال تعليق