القائمة الرئيسية

الصفحات

 


أحياناً أشعر أنني أرى ما يتجاوز الوجوه؛ كأن الملامح مجرد ستارة رقيقة، وأن ما خلفها مكشوف لي على نحوٍ لا أطلبه ولا أسعى إليه. أسمع الكلمات، لكن ما يصلني فعلاً هو ما لم يُقل. أرى الابتسامات، لكني أرى أيضاً تلك الظلال التي تختبئ تحتها؛ نوايا مترددة، مصالح مدسوسة، ورغبات لا يعلنها أصحابها.

ليس الأمر امتيازاً، بل عبئاً ثقيلاً. فالمعرفة التي لا تُطلب قد تكون لعنة، لأنها تُعرّي العالم أمامك بلا رحمة. تحاول أن تتصرف كغيرك، أن تقبل الوجوه كما هي، أن تسايرها، أن تُخفي ما تراه، لكن الحقيقة تسقط عليك في كل مرة كحجر. وتكتشف مع الوقت أن معظم ما يبدو صدقاً ليس إلا رتوشاً، وأن أغلب ما يقال هو مرآة لشيء آخر لم يُفصح عنه.

ويؤلمني أن أرى كم من الناس يتقنون صناعة الأقنعة. يقفون أمامك بثقة، ينسجون كلمات من حرير، بينما قلوبهم تحسب مكاسبهم، وتراقب ماذا ستجلب لهم هذه العلاقة، وهذا الموقف، وهذه اللحظة. القليل فقط يفعل لله، والقليل فقط يمنح دون انتظار رد، والقلة—يا للمفارقة—لا تتكلم كثيراً.

أحزن لأنني لا أستطيع أن أرى العالم كما يراه غيري: بسيطاً، مباشراً، صافياً على الأقل في ظاهره. أحزن لأن الحقيقة تفرض نفسها عليّ، ولأن البصيرة التي تكشف ما وراء الكلام تحرمني من نعمة السذاجة الجميلة التي يعيش بها كثيرون. أحزن لأنني لا أستطيع أن أُعامل الجميع بمعيار ما يظهر، بل بما يبطنون، حتى لو لم أُظهر لهم ذلك.

ولأنني أعرف، أتظاهر أحياناً بأنني لا أعرف. أساير الأقنعة ولا أفضحها، أحافظ على هدوء المشهد، وأتركهم يعتقدون أنهم نجحوا في إخفاء ما في نفوسهم. ليس جبناً ولا مجاملة، بل حفاظاً على ما تبقى في داخلي من سلام. فليس كل حقيقة تستحق أن تُقال، وليس كل كشف يستحق أن يُعلن.

لكنني، رغم كل هذا، ما زلت أبحث عن الصادقين. أولئك الذين يشبهون النور حين يمرّ على المرآة: يظهر كما هو، بلا تحريف. أولئك الذين يمنحون لأن العطاء جزء من تكوينهم، لا لأنه طريق لمصلحة. أولئك الذين لا يخجلون من صدقهم، ولا يزيّنون قلوبهم بأقنعة.

ولعلني في هذا البحث أتمسك بشيء واحد: أن يبقى الداخل الذي أراه في الآخرين مرآةً لا تُعتم لما أريد أنا أن أكونه. أن أحافظ على حقيقتي، ولو كان العالم حولي يحتفل بالزيف. أن أرى ما وراء الوجوه، دون أن أفقد وجهي الحقيقي.

فربما يكون هذا نصيبي: أن أعرف أكثر مما ينبغي، وأصمت أكثر مما يُحتمل، وأحزن بقدر ما أرى. لكنني—على الأقل—لا أكذب على نفسي، ولا أرتدي قناعاً لحماية قناعٍ آخر.

انت الان في اول مقال

تعليقات