أولًا: العِشار في اللغة والمعنى التقليدي
العِشار عند العرب هي النوق الحوامل التي بلغت في بطونها عشرة أشهر، وكانت أنفس الأموال وأغلاها عندهم. فإذا قيل: ﴿وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ﴾ كان المعنى المباشر: أن أهوال يوم القيامة تجعل الناس يتركون أعز أموالهم وأغلاها بلا رعاية ولا التفات. وهذا هو تفسير جمهور المفسرين.
لكن وراء اللفظ القرآني أفق باطني أعمق، يفتح باب التأمل في معاني الخلق والفطرة، وفي طبيعة اللبنات الأولى التي أودعها الله في الكون، فهو حدث يُنبأ بقرب اقتراب الساعة ضمن علامات كبرى في سياق آيات سورة التكوير..
ثانيًا: العِشار رمزًا لمفاتيح الخلق
إذا انتقلنا من الظاهر إلى الباطن، فإن العِشار تمثل:
-
البذور التي تنبت منها الأشجار والثمار.
-
النطف والبويضات التي تنشأ منها الحياة الإنسانية والحيوانية.
-
المورثات (DNA) التي تختزن الصفات الوراثية كاملةً.
كل هذه اللبنات الدقيقة ليست مجرد مادة، بل تحمل القانون الخفي للخلق. فهي وعاء يجمع بين الغيب والشهادة، بين الأمر الإلهي "كن" وبين ظهور المخلوق في عالم الحس.
ثالثًا: معنى التعطيل في الرؤية الباطنية
التعطيل هنا ليس مجرد إهمال، بل:
-
انحراف عن الفطرة: صرف اللبنات الأولى عن مسارها الطبيعي.
-
نقلها من بيئتها: استزراعها في ظروف مختبرية أو صناعية غير ما أعدّه الله لها.
-
تحويرها وتطويعها: تغيير صفاتها الداخلية بطرق اصطناعية حتى تخرج صورًا جديدة غير أصلها.
-
إدماجها في نسيج الحياة: بحيث تدخل هذه الصور المصنوعة في دورة الحياة اليومية فتبدو طبيعية، وهي في حقيقتها مخالفة للفطرة.
رابعًا: الأثر الظاهر والباطن
-
الظاهر: يظهر للناس نفعٌ وإتقان صناعي؛ محاصيل أكبر، علاج لأمراض وراثية، كائنات معدلة أكثر إنتاجية.
-
الباطن: يختفي في داخلها فسادٌ في التوازن الطبيعي، وهلاك للفطرة، وانقطاع للرابط بين ما هو خفي إلهي وما هو ظاهر مخلوق.
-
وهكذا يصبح العالم في صورة جديدة ظاهرها قوة ونجاح، لكن أساسها هشّ مائل إلى الفناء.
خامسًا: المقاربة العلمية المعاصرة
من زاوية علمية، يمكن أن يطابق هذا التعطيل مظاهر العصر الحديث:
-
الهندسة الوراثية: إدخال تعديلات على الشفرة الجينية لتغيير الصفات الطبيعية.
-
التلقيح الصناعي والاستنساخ: نقل البذور والخلايا التناسلية خارج سياقها الفطري.
-
المحاصيل المعدلة وراثيًا: إنتاج غذاء يبدو مثاليًا لكنه يحمل آثارًا طويلة المدى على البيئة والصحة.
كلها محاولات للسيطرة على العِشار الحديثة، أي مفاتيح الخلق الدقيقة، وتحويلها عن فطرتها.
سادسًا: البعد الأخروي
إذا استمر هذا التعطيل دون أن يوقفه أمر الله، فذلك قد يكون إيذانًا بمرحلة فاصلة من تاريخ الإنسانية.
فالإنسانية حين تعبث بأسرار الخلق وتُعطّل فطرتها، إنما تزرع بيدها منبت نهايتها، ليكون ذلك من العلامات الرمزية الممهدة لقيام الساعة.
الخاتمة
-
العِشار في ظاهر النص في تفسير العرب الأوائل: نوق حوامل تُترك يوم القيامة لهول الفزع.
-
العِشار في المعنى الباطني:: اللبنات الدقيقة للخلق (بذور، جينات، نطف) التي تحمل أسرار الحياة.
-
التعطيل: إخراجها عن فطرتها بالتحوير الصناعي والتغيير الجيني.
-
النتيجة: عالم جديد يبدو أكثر إتقانًا من صنع البشر، لكنه فاقد للجوهر الأصلي، ممهد لفساد شامل، ومنذر بمرحلة النهاية.
تعليقات
إرسال تعليق