القائمة الرئيسية

الصفحات

حين يتحوّل الشكوى إلى قيد: كيف يلتهم إدمان الشكوى طاقة الإنسان ويعيد تشكيل المجتمع في دائرة العجز

إدمان الشكوى ليس مجرد عادة سيئة أو لحظة ضعف عابرة، بل هو واحد من أكثر الأنماط النفسية والاجتماعية قدرة على تآكل الإنسان من الداخل. هو مرض صامت، يتطوّر ببطء، ولا يشعر به صاحبه إلا عندما يجد أن خطواته صارت أثقل، وأن أهدافه أبعد، وأن العالم أصبح سوقًا للاتهامات أكثر منه ساحة للفعل.

الشكوى، حين تتحوّل إلى إدمان، تصبح أسلوب حياة لا نبرة صوت. وتحت هذا السلوك تختبئ آليات نفسية واجتماعية وعصبية معقدة تشدّ الإنسان إلى الوراء بينما يظن أنه يتقدّم بالكلام.


أولًا: الجذور النفسية لإدمان الشكوى

1. الحاجة إلى التفريغ دون معالجة

يشعر الإنسان بضغوط مستمرة، وقد يعتقد أن الشكوى تمنحه متنفسًا. لكنها في الحقيقة لا تحلّ شيئًا؛ إنما تمنح شعورًا زائفًا بالراحة.
التفريغ الكلامي يشبه فتح صمام ليخرج بخار قليل، بينما يظل الغليان الحقيقي مشتعلًا في الداخل.
بهذه الطريقة تتجذّر الشكوى لأنها تمنح راحة لحظية لكنها لا تنهي المشكلة.

2. عقل يتهيأ للأسوأ

الدراسات النفسية تشير إلى أن تكرار الشكوى يعيد تشكيل مسارات عصبية في الدماغ، بحيث يصبح الشخص أكثر قدرة على رؤية السلبيات فقط.
الدماغ يتعلم: "كلما اشتكيتُ ارتحتُ"، فيكرر السلوك حتى يتحوّل إلى دائرة مغلقة.

3. البحث عن التعاطف بديلاً عن الإنجاز

البعض يجد في الشكوى وسيلة للحصول على اهتمام الآخرين، لأنه لا يجد ما يقدمه عبر إنجازات أو أفعال.
هذه الآلية تمنح شعورًا بوجود سند اجتماعي، لكنه سند هش قائم على الكلمات لا على الفعل.


ثانيًا: البعد الاجتماعي – حين يصبح المجتمع نفسه مصنعًا للشكوى

1. ثقافة الجلسات التي تحتفي بالسلبية

عندما يجلس مجموعة من الأشخاص ثم يجري السباق نحو "من لديه المعاناة الأكبر"، فهذا مجتمع يخلق مناخًا خصبًا لإدمان الشكوى.
الشكوى الاجتماعية ليست مجرد تفاعل، بل إعادة إنتاج للعجز.

2. العدوى النفسية

الشكوى تنتقل بسرعة أكبر من الأفكار الإيجابية.
الإنسان يتأثر بنبرة من حوله، فإذا كان خيط الحوار العام قائمًا على التذمر، يسقط الجميع في ذات النمط دون وعي.

3. مساواة غير عادلة بين الشكوى والفعل

في كثير من المجتمعات، من يشتكي يُعامل كأنه "يعرف الواقع" و"واعي"، بينما من يقترح الحلول يُسخر منه أو يُتهم بالمثالية.
هذه المفارقة تشجّع الناس على البقاء في منطقة الكلام بدل منطقة الفعل.


ثالثًا: البعد العلمي – كيف يدمّر إدمان الشكوى العقل والجسم؟

1. تأثير كيمياء الدماغ

تكرار الشكوى يرفع هرمونات التوتر مثل الكورتيزول.
ارتفاع الكورتيزول المزمن يؤدي إلى:

  • ضعف الذاكرة

  • تشتت الانتباه

  • انخفاض القدرة على اتخاذ القرار

  • اضطرابات النوم

  • ضعف المناعة

بمعنى آخر، من يشتكي كثيرًا يصبح أضعف في مواجهة نفس المشكلات التي يشتكي منها.

2. التغيير في الأعصاب

كل شكوى تعيد توصيل الدماغ بحيث يصبح أكثر استعدادًا للتفكير السلبي مستقبلًا، وهي آلية تُعرف بـ "اللدونة العصبية السلبية".

3. التأثير الجسدي المباشر

هناك علاقة مثبتة بين الشكوى المزمنة وبين:

  • ارتفاع ضغط الدم

  • متلازمة القولون العصبي

  • آلام العضلات

  • الصداع

  • الإرهاق المستمر

الجسد يسمع ما يقول اللسان ويستجيب على شكل أمراض.


رابعًا: لماذا يُهلك إدمان الشكوى صاحبه؟

1. لأنه يعطّل الحركة

الإنسان الذي يشتكي يشعر أنه "فعل شيئًا"، فيفقد الدافع الحقيقي لاتخاذ خطوة عملية.

2. لأنه يقتل العزيمة

كل تذمر يسرق جزءًا من الإرادة.
وكل إرادة ناقصة تُبقي المشكلة في مكانها.

3. لأنه يغلق أبواب الفرص

الناس تتجنب من يشتكون كثيرًا.
الفرص تُمنح للفعالين لا للمتذمرين.
بيئة العمل تزدري الصوت السلبي حتى لو كان داخله حق.

4. لأنه يخلق هوية من الضعف

مع الوقت لا يعود الشخص يشتكي لأنه متضايق، بل لأنه أصبح هو نفسه شخصًا يشكو.


خامسًا: دائرة العجز – كيف يصبح المجتمع رهينة لإدمان الشكوى؟

عندما يتسع انتشار الشكوى، يحدث الآتي:

  • يتحوّل الأفراد من منتجين إلى مراقبين

  • تنخفض الثقة في المؤسسات

  • تنتشر نظرية المؤامرة والعجز الجمعي

  • تُختزل الحياة في مظلومية مستمرة

وبذلك يصبح المجتمع بيئة طاردة للفعل، مرحبة بالكلام.


سادسًا: الخروج من الإدمان – خطوات عملية

  1. حصر الشكوى في وقت محدد (دقائق يوميًا للتهوية النفسية فقط).

  2. تحويل كل شكوى إلى سؤال: ما الذي يمكن فعله؟

  3. كتابة المشكلة والحلول بدل تكرارها شفهيًا.

  4. مراقبة اللغة اللفظية: استبدال كلمات العجز بكلمات توضح البدائل.

  5. تغيير البيئة الاجتماعية إن كانت محفزًا للشكوى بأسلوب مستمر.

  6. المساءلة الذاتية:

    • هل الشكوى حلّت شيئًا؟

    • أم جعلتني أكرر المشكلة في ذهني؟


الخلاصة التحذيرية

إدمان الشكوى ليس مجرد تذمر، بل نزيف نفسي يسرق القوة، ويربك التفكير، ويجعل صاحبه أداة في يد الظروف بدل أن يكون فاعلًا فيها.
إنه مرض يقتل العزائم ببطء، ويحوّل الإنسان من صانع للواقع إلى راوٍ بائس لخيباته.

الشكوى ضرورة إنسانية عندما تكون بقدر، لكن عندما تتحول إلى إدمان، تتحول الحياة نفسها إلى غرفة مغلقة، لا ضوء فيها إلا صوت التذمر.
ومن يهرب من مواجهة واقعه بالكلام… يعود إليه مثقلًا بما هو أسوأ: شعور بأنه عاجز، وأنه بلا حيلة، وأن المشكلة أكبر منه.
وهذا أخطر ما يقتل الإنسان دون أن يلاحظ: موته النفسي قبل موته الجسدي.

تعليقات