القائمة الرئيسية

الصفحات

 


حين يُختزل الينبوع في صفحة: كيف حوّل الإنسان المقدّس إلى تاريخ وفقد بوصلته الوجودية

المقدّس في جوهره ليس نصًا جامدًا، ولا طقسًا متكررًا، ولا تراثًا يوضع على الرفوف بقدر ما هو منبع استرشاد يربط الإنسان بقوانين الوجود الكبرى. المقدس هو ذلك الضوء الذي يفتح للإنسان طريقًا في عالم معقد، ويمنحه قدرة على فهم قوانين الحياة، واتجاهات السنن، وملامح الصراط الذي يسير فيه العقل والروح والرغبة والوعي.

وعندما نتحدث عن المقدس، فإننا نتحدث عن الكتاب المنزل بوصفه مرجعًا كونيًا لا زمانيًا، إشعاعًا يتجاوز الحدود، لا وثيقة تاريخية معلّقة على جدار الماضي.

لكن الإنسان – بفعل الخوف أو المصلحة أو الحاجة إلى السلطة – كان قادرًا دومًا على تحويل الأنهار إلى برك، والنور إلى ظل، والفيض إلى قيد. وهكذا، تحوّل المقدّس من ينبوع حياة إلى كتاب تاريخي حُصر داخل زمن السيوف والخيل والبيداء، وفقد دوره بوصفه دليلًا دائمًا على حركة الإنسان وعلاقته بالسنن الإلهية.


أولًا: جذور المشكلة – كيف يُختزل المقدس؟

تحويل المقدس إلى تاريخ ليس مجرد خطأ فكري، بل عملية واعية تحمل خلفها مصالح، وأنماط تفكير، وحاجات بشرية إلى السيطرة على المعنى.
هناك ثلاث آليات أساسية تجعل الإنسان يختزل المقدّس:

1. الخوف من انفتاح النص

النص المقدّس إذا بقي مفتوحًا على الزمن سيظل يُنتج أسئلة، ويحرّك العقل، ويهزّ الثوابت.
ولأن المجتمعات تخاف من الأسئلة، فإنها تبحث عن طريقة لتحويل النص إلى وثيقة مغلقة يتم التعامل معها كـ"أرشيف".

2. احتكار المعنى من قبل المؤسسات

هناك من وجد في الدين مصدر نفوذ، فقام بإنشاء “طبقة حارسة” تُمسك بالمفتاح، وتمنع الناس من الوصول إلى النبع مباشرة.
ولكي تكتمل السيطرة، جرى تحويل المقدس نفسه إلى مادة تحتاج وسيطًا بشريًا.

3. نزعة الإنسان إلى الوثوق بما هو منتهٍ

الإنسان يحب الجاهز والمكتمل.
الكتاب المفتوح يتطلب جهدًا وتأملًا ومسؤولية.
أما الكتاب التاريخي، فيتطلب حفظًا وطاعة فقط.


ثانيًا: سقوط المقدس في الفخ التاريخي

ما إن يُحصر المقدّس داخل زمن محدد حتى يصبح أسيرًا للحدث لا للمعنى.
يُقرأ بوصفه رواية أو سيرة مضت، لا بوصفه وحيًا كونيًا يكشف قوانين الوجود.
ويتحول الاهتمام من الرسالة إلى الحدث، ومن المعنى إلى السيرة، ومن السنن إلى القصص.

هذا التحويل أدى إلى كارثتين:

1. فقدان البوصلة

بدل أن يكون النص مرجعًا لفهم السنن والاتجاهات الكبرى، أصبح متحفًا لغويًا، تُحفظ عباراته دون أن تُفهم وظائفه.

2. الانقطاع عن الزمن

الدول الإسلامية توقفت عند “زمن نموذجي” تجمّدت عنده الوعي، فصارت تقيس الحاضر بمنظار الماضي، وتتعامل مع اليوم بأدوات الأمس.


ثالثًا: دور طبقة “رجال الدين” في تضييق الينبوع

حين يمتهن بعض الناس الدين، ويحوّلون التعامل مع المقدس إلى تجارة رمزية ومادية، يصبح من مصلحتهم أن:

  1. يبقى النص مغلقًا ليظلوا الوسطاء.

  2. تدور الأسئلة حولهم لا حول المعنى.

  3. يتحول كل فهم بشري إلى مقدس آخر يتم رفعه فوق النقد.

وبدلاً من أن يظل الينبوع واحدًا، تكاثرت الينابيع المزيفة:
كتب وشروح وخطابات وتأويلات ضخمة تم تقديمها في مرتبة التقديس، حتى أصبحت أثقل من النص نفسه.
هكذا جرى إلهاء الناس عن الأصل، وإغراقهم في التفاصيل، وجرّهم إلى متاهة النصوص البشرية التي تصدرت المشهد حتى طغت على النص السماوي ذاته.


رابعًا: تراجع الوعي… حين يصبح المجتمع رهينة لما بعد النص

عندما يتم التعامل مع المقدس بوصفه تاريخًا، تتراجع الحضارة بالضرورة لأن:

  • الفكر يتوقف عن التجدد

  • الروح تفقد اتصالها بمصدر الهدي

  • العقل يفقد قدرته على الابتكار

  • المجتمع يغرق في الدجل والخرافات

  • السلطة الدينية تزداد صلابة واحتكارًا

التدين الظاهري يصبح بديلاً عن الفهم، والخرافة تصبح بديلاً عن المعرفة، والدجل يصبح أداة لتفسير العالم.
وهكذا يصبح الإنسان تابعًا لا قادرًا، ومستهلكًا لا منتجًا، ومطيعًا لا واعيًا.


خامسًا: أثر تغييب الملائكة بوصفها رمز التجديد في الوعي

عندما يُفهم مفهوم الملائكة فهمًا جامدًا، يُفقد دوره الرمزي العميق:
الملائكة ليست كائنات للتزيين الخيالي، بل رمز لحمل الأمر الإلهي الذي يضخ الحياة في وعي الإنسان.
هي صورة لتمدد السنن في عالم البشر، لتنظيم المصائر، ولضخّ الاتجاه الصحيح في الوعي الجمعي.

لكن حصر هذا المفهوم في الصور التراثية أغلق الباب أمام رؤية أوسع للصلة بين الوعي والقدر، بين الروح والحركة، بين الإنسان والقوانين الكونية.


سادسًا: لماذا تم تضييق النص عمدًا؟

التحويل ليس بريئًا.
هناك أسباب جعلت البعض يسعى إلى “حبس” النص داخل زمن تاريخي، منها:

  1. إبقاء السلطة في يد فئة محددة

  2. منع الناس من امتلاك أدوات الفهم الذاتي

  3. خلق اعتماد دائم على المؤسسة لا على النص

  4. تحويل الدين إلى نظام تراتبي لا علاقة له بالفطرة

  5. إشغال العقول بآلاف الكتب الفرعية بدل الأصل الواحد

نتيجة ذلك:
مجتمعات ضعيفة، أجيال ممزقة بين تراث فوق طاقتها، وواقع لا يتيح لها استعمال عقلها.


سابعًا: ما الذي ضاع حين تحوّل المقدس إلى تاريخ؟

ضاعت القدرة على:

  • رؤية السنن

  • فهم حركة الحياة

  • قراءة الواقع

  • تحويل الوحي إلى وعي

  • صياغة حضارة

  • إدارة تناقضات العصر

  • إنتاج علم ومعرفة

  • التحرر من سلطة البشر على الدين

وبدل أن يكون النص هدىً للمتقين في كل زمان ومكان، أصبح نصًا يُقرأ بلا حياة، ويُتلى بلا أثر، ويُدرس بلا توجيه.


ثامنًا: استعادة المقدس من براثن التاريخ

استعادة النص ليست عملية دينية بقدر ما هي عملية تحرر فكري وروحي.
وهي تقوم على:

  1. فهم النص بوصفه مرجعًا كونيًا لا تاريخيًا

  2. التعامل معه كينبوع مفتوح للوعي لا ككتاب مغلق للقصص

  3. تحريره من احتكار المؤسسات

  4. رفع القداسة عن الكتب البشرية والعودة إلى الأصل

  5. تحويل الرسالة إلى وعي عملي ينعكس في السلوك لا في الشعارات

  6. ربط الإنسان بالسنن والقوانين الكبرى بدل الانغلاق في الطقوس


الخلاصة

عندما يتحوّل المقدّس إلى تاريخ، يتحوّل الإنسان إلى ظلّ.
وحين يتوقّف النص عن أن يكون ينبوعًا للوعي، تتوقف الحضارة نفسها عن النمو.
المشكلة ليست في النص، بل في الطريقة التي حاصر بها الناس معناه، وفي الجدران التي شُيّدت حوله، وفي الطبقات البشرية التي ادّعت حق حماية ما لا يحتاج إلى حماية.

إن إعادة المقدس إلى جوهره ليست ثورة دينية، بل ثورة وعي؛
ثورة تفتح الباب من جديد أمام فيض النص، وتجعل الإنسان قادرًا على قراءة الصراط المستقيم بعقل حيّ وروح يقظة.
وحين يحدث ذلك، يسقط التاريخ عن النص، ويبقى المعنى… ويبقى الينبوع.

تعليقات