في عالم النبات، لا شيء يحدث صدفة. كل ورقة، كل ثمرة، كل بذرة تحمل سرًّا أودعه الخالق في تفاصيلها. لكن هناك آيتان قصيرتان في القرآن تختصران هذه القصة الكاملة للنماء، وتكشفان عن نظام حياة متكامل يعمل منذ بدء الخليقة حتى اليوم: "فاكهة وأبًّا".
وراء هاتين الكلمتين رحلة عميقة من الأرض إلى السماء، ومن الجذر إلى الثمرة، ومن البذرة إلى موسم الحصاد، رحلة تجمع بين الدقة الإلهية والجمال البديع في صورة لا يملك القلب أمامها إلا أن يسبّح.
فاكهة.. انفصال عن الأصل بنضج وهيمنة
"الفاكهة" في أصلها اللغوي من الجذر فكه، وهي كل ما نما من أصل ثابت (كساق أو شجرة) ثم انفصل عنه ليصبح ثمرة مكتملة. هذا الانفصال ليس فوضوياً، بل يحدث في ظل ارتباط وثيق بالأصل، حتى تصل الثمرة إلى أقصى درجات النضج والإتقان.
الموز مثال واضح: تنمو أصابعه من أصل الساق، تنفصل في شكل متماسك، يجمعها إطار واحد، تهيمن عليه ويهيمن عليها، وتظل مرتبطة بأصلها حتى تكتمل تماماً. هكذا كل الفاكهة: ولادة من أصل، ثم اكتمال، ثم استعداد للعطاء.
وأبًّا.. البذرة الجامعة لأسرار الحياة
أما "الأبّ" فجذرها ءبب، وهي في الآية وصف جامع لعنصر أساس في إنتاج النبات: البذور.
البذرة تقوم بوظيفة عجيبة: تجمع بين بيئتين مختلفتين – ما في الأرض من تربة وماء وأملاح ومواد عضوية، وما في داخلها من حياة كامنة – وتؤلف بينهما في انسجام تام. تبدأ عملها في الخفاء، طورًا بعد طور، حتى تُخرج الجذور للأسفل والسيقان للأعلى، في عملية متكررة، لا تتوقف إلا لتبدأ من جديد، في دورة إلهية مستمرة.
حروف كلمة "أبّ" تحمل هذه المعاني بدقة:
-
الواو (وَ): الجمع والوصل بين ما سبق من أصناف النبات (الحَبّ، العنب، الزيتون، النخل، الحدائق، والفاكهة) في عملية إنتاجية موحدة.
-
الألف (أَ): التأليف وضبط العلاقة بين مكونات الأرض ومكونات النبات حتى تصير وحدة واحدة هي الأفضل.
-
الباء المشددة (بّ): الإظهار المتدرج من طور إلى طور، حتى تخرج الحياة من غلافها وتنتشر في الأرض.
الآية الجامعة
قال تعالى:
{ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)} (عبس)
هذه الآيات ترسم خطاً بيانياً من الخاص إلى العام: تبدأ بذكر أصناف بعينها، ثم تنتقل إلى ذكر الفاكهة، ثم تختم بـ"الأبّ" الذي يشمل جميع ما سبق من النباتات، لأنه يمثل مصدرها ووسيلة استمرارها عبر الأجيال.
بل إن السياق يلمح أيضاً إلى نوعين من وسائل الإكثار: البذور (الأبّ)، والشتلات والفسائل (القضب وما في حكمه)، وكلها مسخّرة لإنتاج نعم الله لنا ولأنعامنا.
الخلاصة
"فاكهة وأبًّا" ليستا مجرد وصفين لنوعين من الغذاء، بل مفتاحان لفهم نظام إلهي متكامل: الفاكهة رمز للنضج والانفصال المهيمن عن الأصل، والأبّ رمز للبذور التي تؤلف بين عناصر الحياة، وتعيد إنتاج نفسها بلا انقطاع. وبينهما، تتجلى دورة النبات من البذرة إلى الثمرة، ومن الأصل إلى الفرع، في لوحة قرآنية تبقى حيّة ما دامت الأرض تنبت.
تعليقات
إرسال تعليق