ثلاثية التخليق في القرآن: تأملات في اللات والعزى ومناة
✳️ مقدمة:
لطالما تناول المفسرون أسماء "اللات والعزى ومناة" بوصفها رموزًا للشرك وأسماء لأصنام عبدها العرب في الجاهلية، لكن قراءة أعمق للنصوص، واستنطاق الألفاظ من جذورها، يفتح أفقًا تأمليًا جديدًا يربط بين هذه الأسماء الثلاثة وبنية الخلق نفسها.
فهل يمكن أن تكون هذه الألفاظ الثلاثة، إلى جانب بعدها التاريخي والديني، حاملة لنماذج وجودية في طريقة خلق الأشياء والمخلوقات؟
في هذا المقال، نفتح هذا الباب التأملي لنتفكر في كيف يظهر "التخليق" من خلال ثلاثية: اللات، العزى، مناة.
1️⃣ اللات: الخلق بالتفاعل بين عناصر مختلفة
▪️ المعنى اللغوي:
"اللات" مشتقة من الجذر "لتّ"، أي خلط الشيء بشيء آخر ومزجه حتى يصبح نسيجًا واحدًا. كما في قولنا: لتّ العجين.
▪️ المعنى التأملي:
تمثل "اللات" النموذج الأول من الخلق، وهو التكوين الناتج عن تفاعل وانسجام بين عناصر متعددة.
فالعجين مثلًا لا يوجد إلا إذا اجتمع الماء والدقيق والخميرة. وكذا الجنين هو نتيجة التحام البويضة بالحيوان المنوي في رحم تتوافر فيه الشروط البيولوجية.
▪️ دلالات أعمق:
-
اللام المشددة توحي بـكثرة مراحل التفاعل أو اندماج المواد.
-
"اللات" ترمز إلى التخليق التشاركي، أي الذي لا يتم من خلال مادة واحدة، بل من خلال مزيج من عناصر.
2️⃣ العزى: الخلق من الباطن والانبعاث الداخلي
▪️ المعنى اللغوي:
"العُزّى" تدل لغويًا على الشدة والعلو، وهي مشتقة من "العِزّة"، وتُحيل أيضًا إلى المخفي والمكنون.
▪️ المعنى التأملي:
العزى تمثل التخليق الذي ينبثق من باطن شيء آخر. أي أن هناك مادة أو كيانًا يُنتج آخر من داخله، وكأن الناتج كان خفيًا فيه، فظهر.
كمثل الشجرة تُخرج الثمرة، أو الرحم يخرج الجنين، أو الأرض تُنبت الزرع.
▪️ دلالات أعمق:
-
الشدة على الزاي تدل على التكثيف الداخلي والارتباط العميق بين الأصل والفرع.
-
العزى تمثل التخليق الانبعاثي: لا خليط من الخارج، بل مادة تُولد من جوف أخرى.
3️⃣ مناة: الخلق الناتج عن تركيب غير متجانس
▪️ المعنى اللغوي:
"مناة" من "منى"، أي قُدِّر وركّب وجُمع. وهي أيضًا تدل على النهاية أو المصير.
▪️ المعنى التأملي:
تمثل "مناة" النموذج الثالث من الخلق، وهو تخليق شيء جديد بالكامل يختلف جذريًا عن مكوناته الأصلية، كما هو الحال في التكنولوجيا الحديثة.
▪️ أمثلة معاصرة:
-
الحاسوب مكون من رمل (سيليكون) وحديد وأسلاك بلاستيكية... لكنه يُنتج صورًا وصوتًا وأفكارًا!
-
الإنترنت مزيج من موجات وأجهزة، لكن نتيجته ليست مادية بقدر ما هي عقلية وفكرية.
▪️ دلالات أعمق:
-
"مناة الثالثة الأخرى" توحي بـاختلاف الناتج اختلافًا جذريًا عن عناصره.
-
هذا النموذج يمثل التخليق التركيبي المتنافر المتكامل؛ حيث تتحول المادة إلى ما لا يشبهها.
🧩 هذه الثلاثية هي قواعد الوجود:
يمكننا القول إن كل شيء مخلوق، وكل تحول مادي أو حياتي، لا يخرج عن هذه القواعد الثلاث:
-
اللات: خلق بالمشاركة.
-
العزى: خلق بالانبثاق.
-
مناة: خلق بالتركيب والتمايز.
والمدهش أن القرآن حين ذكر هذه الأسماء، علّق عليها بقوله:
"ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذًا قسمة ضيزى"
أي أن تقسيماتهم التي بُنيت على أوهامهم، حتى وإن استندت إلى إدراكهم للخلق، هي قِسمة ظالمة لأنها فصلت بين الخالق والمخلوق وفصلت بين الأنثى والذكر، بناءً على أهواء لا على فهم حقيقي لسنن الخلق.
🕰️ { وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ } (ص:3) في ضوء هذا الفهم
في هذا السياق، يظهر قوله تعالى:
"وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ"
بصيغة تعبيرية خاصة، تجمع بين اسم "لات" وتوقيت الهروب (مناص = مهرب).
كأنما الحق تعالى يقول:
حين تقترب النهاية، لن يُجدي استدعاء أنماط "اللات" في محاولة للهروب، أي لن تنفع التفاعلات ولا النظريات ولا العلوم في إخراج الناس من مصيرهم المحتوم... لأنهم تجاوزوا توقيت النجاة، وغرقوا في محاولات عقلية مستمدة من حضارات هالكة، نسجوا منها طريقهم إلى الضلال.
📌 خاتمة:
هذا التأمل لا ينكر المعاني الظاهرة للآيات، بل يحاول استنطاق الألفاظ القرآنية الغنية بدلالاتها المركبة.
فمن خلال فهم "اللات، العزى، مناة" كأنماط خلق لا كأسماء أصنام، ندرك أن القرآن ليس فقط نصًا دينيًا، بل بنية رمزية ومعرفية عظيمة يمكن أن تُقرأ بمنظار علمي وتأملي في آن.
تعليقات
إرسال تعليق