اللسان في القرآن: أداة نقل المقاييس من عالم الأمر إلى عالم الخلق
ليس اللسان مجرد قطعة لحم تتحرك بين الفكين، ولا هو فقط وسيلة لنطق الحروف والكلمات. في منطق الوحي، اللسان هو جسرٌ ممتد بين عالمين: عالم الأمر حيث صفاء المقياس الإلهي، وعالم الخلق حيث تختلط الأصوات بالهوى، وتتشابك الحجج مع الشبهات.
اللسان هو أداة نقل، لكنه ليس ناقلًا محايدًا؛ إنما هو ميزان يزن ما يخرج وما يدخل، ويختار كيف تُترجَم المقاييس من لغة الغيب إلى لغة الشهادة. هنا تتجلى حكمة إرسال الرسل بألسنة أقوامهم كما قال الحق: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: 4]. لم يكن ذلك مجاملةً للسان القوم ولا اعترافًا بنقائه، بل لأن المواجهة الحقيقية تبدأ من داخل معاييرهم هم، ليُقاس الباطل بالحق على ميزانهم، فإذا انكشفت العوجاء، تهاوت الحجة أمام النور.
لكن القرآن حالة فريدة؛ فهو لسان كل الأقوام، من يوم نزوله حتى انقضاء الزمان. إنه الحجة العليا التي تعلو على كل لسان، المقياس الذي يقيس كل المقاييس، المصفاة التي لا تسمح بمرور كدرٍ أو التباس. وصفه الله بأنه عربي مبين: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ [الشعراء: 195]، وقال: ﴿وَلِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ [النحل: 103]. فـ"العربي المبين" ليس قومية ولا جغرافيا، بل صفاء في المقياس ووضوح في البيان.
إن الوحي حين ييسَّر بلسان النبي، كما في قوله: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [الدخان: 58]، و**﴿لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا﴾** [مريم: 97]، فإنه يعيد المعايير إلى أصلها النقي، ويكشف للمخاطب أن الانحراف ليس في الألفاظ، بل في المقاييس التي تشحن بها تلك الألفاظ.
ولأن اللسان حاملٌ للأثر، فقد جعله الله مرادفًا للذكر الحسن الذي يبقى بعد الإنسان: ﴿وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾ [الشعراء: 84]، و**﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾** [مريم: 50]. هذا هو اللسان الذي يخلّد صاحبه في ميزان الحق، لأن أثره كان نقياً من شوائب التحريف.
لكن اللسان قد ينقلب إلى أداة هدم، إذا حمَل المقاييس الباطلة وزيَّن الكذب: ﴿تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ﴾ [النحل: 62]، أو نشر السوء: ﴿وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ﴾ [الممتحنة: 2]، أو روّج بلا علم: ﴿وَتَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ﴾ [النور: 15]. ولأن اللسان شاهد على صاحبه، فإنه يوم القيامة لا يصمت: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ﴾ [النور: 24].
ولأن الله هو الذي صاغ هذا الجسر، فقد جعله جزءًا من منظومة الإدراك: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ﴾ [البلد: 8-9]، وأمر نبيه ألا يعجِّل به قبل تمام وحيه: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ [القيامة: 16].
هكذا، يتضح أن اللسان ليس مجرّد أداة كلام، بل مِفتاح انتقال المقاييس بين العوالم، ميزان يختبر النقاء قبل أن يُخرج الكلمة إلى الوجود. ومن ضبط لسانه، فقد ضبط ميزان الحق في حياته، وصار جسرًا أمينًا بين الأمر والخلق.
تعليقات
إرسال تعليق